الخميس، ٢٧ مارس ٢٠٠٨

حين ميسرة و فوضى الإبداع


نشر فى موقع إخوان أون لين ، نافذة مصر


بقلم: د/ ممدوح المنير

لا شك أن فيلم (حين ميسرة) الذي يُعرَض حاليًّا على شاشة السينما في مصر قد كشف المستور، ليس لسكان العشوائيات فحسب، ولكن لمجتمع بأكمله، والقضايا التي سلط الفيلم عليها الضوء كانت ولا تزال مفجعةً ومريرةً للجميع، وأنا هنا لا أتحدث عن قصة الفيلم وحسب، ولكن عن الضجيج الذي سبَّبه والجدل الشديد الذي دار حوله.

بدايةً أُعلن للجميع أني لم أشاهد الفيلم!! فأنا- كمواطن مصري- لست في حاجة لأن أشاهد فيلمًا حتى أعرف معاناة الناس، يكفي المرء أن يقف في شرفة منزله حتى يرى المعاناة على الطبيعة بلا رتوش أو مكياج!! لذا سينصبُّ حديثي على الجزء الذي فرض عليَّ مشاهدته، سواءٌ الإعلان أو النقاشات التي دارت حوله في الصحف أو شاشة التلفاز.

ربما كشف الفيلم مدى فقر وانحلال طبقة مسحوقة من المجتمع، تتحرك في سلوكها وحياتها بلا ضابط أو رادع ديني أو أخلاقي، منكفئةً على ذاتها بشكل لا يصدَّق، تنحصر متطلباتها في قضاء الحاجات الأساسية والغريزية في الحياة، فتجد معاني مثل (البلطجة- السرقة- الانحراف- الفقر- المرض- الألفاظ البذيئة) هي الإطار الذي تتحرَّك فيه أحداث الفيلم.

وعند هذه النقطة كان الفيلم في سياقه العام كاشفًا بحق عن هذه الأمراض التي تعاني منها هذه الطبقة، ولكن القضية التي تطرح نفسها هنا هي قضية المرجعية التي اعتمد عليها أبطال الفيلم حتى يخرج الفيلم بهذه الصورة.

لقد ثار جدل كبير حول جرعة الانحراف في الفيلم؛ فمن رافض لها بالمطلق، ومن مستاء فقط من كميتها، ويرى أنها أكثر مما ينبغي وممن يراها ضعيفة وأخذ يتأسَّف على الماضي الجميل الذي كانت تكثر فيه المشاهد والملابس الساخنة!!.

ولكن السؤال الذي أطرحه هنا: هل من حق المخرج أن يناقش قضيةً ما على شاشة السينما بناءً على مرجعيته ورأيه وتصوره الشخصي للحياة والحرية؟ الإجابة بالتأكيد نعم ولا!!، كيف؟ نعم من حقِّه أن يعبر عن رأيه وفكرته، ولكن ما دام سيخاطب بها المجتمع فيجب أن يعبر عنها بالشكل الذي يريده ويتقبَّله المجتمع؟ وهذا للأسف هو العنصر الغائب في الفيلم؛ فالمرجعية المعتمدة للمجتمع والتي يتحدث عنها الدستور في فقراته الأُولى هي أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع ومن حق أي مواطن يرى أن هناك تشريعًا أو قانونًا ما لا يتوافق مع الشريعة أن يرفع دعوى بعدم الدستورية أمام المحكمة الدستورية العليا، فإذا ما ثبت عدم توافقه مع الشريعة تُسقطه المحكمة ويصبح هو والعدم سواءً.

وبالتالي فإن العقد الاجتماعي الذي توافقت عليه غالبية الأمة وارتضته عن طيب خاطر حاكمًا ومنظمًا لشئونها وراعيًا لمصالحها ومعبرًا عن طموحها هو الإسلام، وبالتالي فإن أي عمل فني يتصادم مع هذه المرجعية يُعتبر خروجًا عن أعراف المجتمع.

وهنا قد يحتجُّ أحدهم ويقول هذه الفرضية خاطئة؛ لأن إيرادات الفيلم حتى الآن توضِّح بما لا يدَع مجالاً للشكِّ أن هناك عددًا كبيرًا من المواطنين يقبل ما يطرحه الفيلم، وبالتالي فمن حق المخرج ومن حق هذه الشريحة أن تخاطَب بما تحب أن ترى وتسمع؟! وهذا بالطبع قول مردود، لماذا؟!

أولاً لأنه ليس كلُّ من شاهد الفيلم وأمثاله معجَبًا بما رأى، فهناك من رفض بشدة الشكل الذي عالج به المخرج القصة.

ثانيًا إن شاشة السينما وسيلة تثقيفية بالأساس، وبالتالي فدورها أن ترفع من ذوق الناس لا أن تهبط إلى مستواهم.

ثالثًا ليس معنى أن هناك شريحةً ما من المجتمع تحب أن ترى هذا اللون من الفنون أن يتم فرضه على الجميع لماذا؟ لو كان هذا المنطق سليمًا لجاز أن نعرض أفلامًا إباحيةً بالكامل على شاشة التلفاز؛ لأن هناك الكثير من الغواني والمومسات اللاتي يحببن هذا اللون من الفنون، ولجاز أن نعرض فيلمًا يحث على السرقة ووسائلها؛ لأن في المجتمع عشرات الآلاف من اللصوص الذين يحبُّون أن يشاهدوا هذا اللون كذلك!!.

رابعًا مخاطبة غرائز الناس واستثمار ما يعاني منه المجتمع من أمراض وكبت نتيجة وجود عشرات الملايين من العزَّاب والعوانس والمطلقات والأرامل والمراهقين الذين لا يجدون المنفذ الشرعي لقضاء وطرهم، يعدُّ وسيلةً - آسف أن أقول ذلك- رخيصةً لجني المال.

خامسًا ما القيمة الفنية أو الإضافة التي يتلقَّاها المشاهد من رؤية رجل يضاجع زوجته أو خليلته؟ أو رجل يغتصب امرأة؟ وعلى افتراض أن هناك قيمةً ما في عقل المخرج أو كاتب السيناريو من هذه المشاهد الفاضحة، فهل تستحق هذه القيمة أن نضحِّي من أجلها بأخلاق المجتمع ونكشف عوراته ونقضي على حيائه؟!

إنني أرجوهم أن يخبروني ما هي هذه القيمة التي تستحق كل هذه التضحيات؟ إنني أطالب أبطال الفيلم- سواءٌ كانوا أمام الشاشة أو خلفها- ألا يقدموا لنا ما يتصادَم مع أخلاقيات المجتمع في مجمله وتأباه الفِطَر السليمة، إنني أعلم جيدًا أن عنصر الإثارة الجنسية هو عنصر التشويق الوحيد الذي يعتمد عليه أغلبية المنتجين لجني المال؛ لأنه الأرخص سعرًا، كما قال لي أحد المخرجين، ولكننا نعلم جيدًا في مرجعيتنا الإسلامية أن الغاية لا تبرِّر الوسيلة؛ لا بد أن تكون كلاهما نقيةً وشريفةً (الغاية والوسيلة).

أعلم كذلك أننا كأصحاب مشروع حضاري نقدمه للأمة ما زلنا نعاني من قصور شديد في هذا الجانب، وأننا لم نستطع حتى الآن أن نقدم بديلاً قادرًا وكافيًا لإشباع حاجات الناس، ربما كان السبب تقصيرًا منا، أو ربما حجم الضغوط الهائلة التي نتعرَّض لها لا تسمح بالتطور المأمول في هذا الجانب، وربما كان كذلك نتيجةً لعدم حسم الكثير من القضايا الفكرية والفقهية المتعلقة بالفن.

لذا فإنني أطالب وأرجو وأتمنَّى من كافة المنشغلين بقضايا الأمة أن يضعوا الفنون كافةً- والسينما خاصةً- في مقدمة أولوياتهم؛ لأنها بحق فنونٌ رائعةٌ إذا أُحسن استغلالها وربما كان مشهدٌ سينمائيٌّ مؤثرٌ كافيًا عن آلاف الكتب والمحاضرات، وفيلم "الرسالة" و"عمر المختار" ليسا منا ببعيد!!، ولدينا الأنموذج الإيراني الذي استطاع أن يحصد الجوائز العالمية في السينما ويفرض احترامه على الجميع دون أن يتنازل عن ثوابت المجتمع وأخلاقه؛ لذا فهو أنموذج جدير بالدراسة والتأمل.

أعتقد كذلك أنه حتى في المجتمعات الغربية الآن والتي هي قبلة الكثير من العاملين عندنا في حقل السينما، تصاعدت حدَّة الرفض للمشاهد الإباحية، بل إن هناك عددًا من كبار الممثلين في الولايات المتحدة أعلن ندمَه على تمثيل هذه المشاهد الساخنة وتعهَّد بعدم تكرارها! وبالتالي فما قُدِّم هنا تأباه الفطرةُ السليمةُ، لا في مصر وحدها وإنما في العالم أجمع.

أخيرًا.. عندما شاهدت إحدى الممثلات الباحثات عن الشهرة والمجد في الفيلم وقد كشفت من جسدها أكثر مما سترت، تذكَّرت قصةً طريفةً حدثت في أحد العصور الإسلامية عندما حاول أحد الرجال أن يتبوَّل في بئر زمزم- اطمئنوا لم يستطع- فأمسكه الحرس وأتوا به إلى الخليفة، فسأله مستنكرًا: ما حملك على هذا؟! فقال: "أحببت أن يذكرني الناس ولو باللعن"!!.

0 Comments:

blogger templates | Make Money Online