الجمعة، ٢٦ أبريل ٢٠١٣

السياسة الخارجية المصرية و صراع الأفيال

السياسة الخارجية المصرية و صراع الأفيال


بقلم / د ممدوح المنير *


تثير زيارات الرئيس المصرى محمد مرسى الكثير من التساؤلات حول جدوى هذه الزيارات الخارجية سواء على الصعيد السياسى أو الإقتصادى ، خاصة أن الرئيس شرّق و غرّب كثيرا منذ توليه مقاليد السلطة .


و  كثير من هذا الجدل الدائر لا يتعلق فقط بجدوى الزيارات ولكن بكون الرئيس محسوب على جماعة الإخوان المسلمين التى تصل إلى السلطة لأول مرة فى تاريخها ، مما يشكل إنقلابا كبيرا فى سياسة مصر الخارجية  و فى تعامل الدول الكبرى مع مصر .


نحاول من خلال هذا التحليل أن نوضح الرؤية الإستراتيجية التى تحكم العلاقة بين الطرفين ( مصر و الدول الكبرى ) و ليست الأهداف التكتيكية التى قد تكون مهمة للغاية ، لكنها ليست بحال المحدد الرئيسى للعلاقات بينهما ، بمعنى آخر قد تكون الأهداف التكتيكية أو المرحلية تعاون إقتصادى أو جلب إستثمارات أو زيادة اعتراف العالم بالقيادة المصرية الجديدة أو تعاون ثقافى أو علمى أو نحو ذلك من مجالات العمل التى تحكم طبيعة عمل الأنساق الدولية .


فى الحقيقة إن الإطار الحاكم بينهما هو إدراك كل طرف أن مستقبله سوف يكون على حساب الآخر ، و بهذا تحدث سنة التدافع بينهما ، أو بشكل آخر تعانى الولايات المتحدة و حلفائها تراجعا حضاريا و إقتصاديا كبيرا فى العقد الأخير ، مما جعل الكثير من مراكز الأبحاث الغربية تتحدث عن الإنهيار الوشيك و المحتوم للحضارة الغربية بعد أن وصلت لمرحلة التشبع الحضارى و الذى يعقبه عادة بداية السقوط  للحضارة الغربية و هو ما يدفع المعسكر الغربى الحالى لبذل جهود مستميتة فى محاولة لتأخير هذا التراجع عن سلّم قيادة العالم .


و لأن العالم الغربى يدرك جيدا أنه لم يستلم زمام القيادة إلا على أنقاض الإمبراطورية الإسلامية المتمثلة فى دولة الخلافة العثمانية التى قامت على أنقاضها الإمبراطورية الغربية ، فهو الآن يخشى أن صعود مصر و قوتها سوف يكون المقدمة لأن تكون هى قاطرة العالم الإسلامى و من ثمّ إستعادة قيادة العالم من جديد ، كما قاده المسلمون لأكثر من الف عام فى ظل الخلافة الإسلامية .


إذن هو صراع حضارى بإمتياز ، أو سمه إن شئت صراع الأفيال الذى تتصراع و تتناطح فيما بينها فى عالم يحكمه منطق القوة لا قوة المنطق .


فأمريكا  تتهاوى بكل ما تعنيه الكلمة فقد جعلت العالم كله يحبس انفاسه منذ شهرين تقريبا عندما وصلت الي ما يعرف بحافة الهاوية الاقتصادية و تم رفع سقف الدين العام ليصل إلى أكثر من 90 % من إجمالى الناتج القومى ، كذلك  برزت مسألة انفصال الولايات عن الحكومة المركزية فى الولايات المتحدة بشكل أكثر جدية ، بداية المطالبة بالانفصال كانت نشر خمس ولايات على موقع البيت الابيض عريضة تطالب باستجواب كل ولاية على حدة للتعرف على رأيها بالانفصال السلمي عن الاتحاد الفيدرالي وقع عليها 600 ألف فرد.


لمؤرخ الأمريكي بول كيندي في كتابه «صعود وسقوط القوى العظمى» الذي نشر عام 1987، تنبأ فيه بسقوط الإمبراطورية الأمريكية بالمعنى التاريخي للكلمة الذي هو المصير الحتمي لأي إمبراطورية، بما يعني اضمحلال قوتها تدريجيا نتيجة عوامل داخلية بنيوية من ناحية، ونظراً لصعود قوى عظمى منافسة مثل الصين والهند والبرازيل.

لذلك ليس غريبا أن نقول أن كثير من أحداث الثورة المضادة فى مصر تتم من داخل السفارة الأمريكية فى القاهرة ، و ذّلات لسان بعض قادة المعارض مثل البرادعى والزند واستنجادهما بالولايات المتحدة يجعلنا ندرك إلى أى حد تعتمد عليهما قوى الثورة المضادة فى إسقاط النظام الحالى .


لذلك نحن ندرك و نؤمن ان كل من يقود الثورة المضادة في مصر هم مجرد كومبارس و عرائس تحركها امريكا و حلفائها ، فمعركتنا مع الغرب في الحقيقة الذي لن يسلم بسهولة ، بل انه اذا شعر ان ذيوله في مصر فشلت في اجهاض الثورة ، فسوف يبدأ حينها في استخدام انيابه من حصار اقتصادي او حتي التلويح بالحرب .

 و التاريخ المصرى الحديث يشهد على طبيعة المعركة الدائرة حاليا ، فيجب ألا ننسى ان أول برلمان منتخب و دستور وطنى وضعه المصريون لأنفسهم  كانا فى عام 1882م ، فى البداية كما جاء فى موقع تاريخ مصر فى توثيقه لأحداث هذه الفترة (تم انتخاب البرلمان و الذى رأت فيه إنجلترا و فرنسا يمثل خطورة علي مصالحهما، لأن قيام مجلس نيابى مستقل سوف يجعل من التدخل الأوروبي أمراً صعباً، علي حين أن نظام الحكم المطلق يسهل أمور التدخل.


و علي هذا أرسلت الدولتان مذكرة مشتركة في 7 يناير 1882 م توحي كلماتها بالاستياء من قيام نظام برلماني في مصر، و تذكر صراحة أن هذه الأحداث توجب التدخل لحماية العرش الخديوي ، و بالطبع رفض شريف باشا رئيس الوزارة حينها المذكرة و احتج لدي القنصلين الانجليزي و الفرنسي علي المذكرة.


و أمام إصرار الطرفين علي موقفيهما من مناقشة الميزانية، استقال شريف باشا و تألفت وزارة برئاسة البارودي  الذي عين أحمد عرابي وزيراً للحربية ، و بادرت الوزارة بإعلان الدستور في 7 فبراير 1882 م و إقرار حق المجلس في مناقشة الميزانية ، و هنا أحتج الرقيبان الفرنسي و الإنجليزي و طالبا قنصليهما بالتصرف.


و طلبت الحماية البريطانية من الخديوي اسماعيل وقتها وقف العمل بالدستور و تعليق العمل باول مجلس نواب منتخب ، فلما رفض الشعب ذلك ، تم احتلال مصر بعدها مباشرة من قبل الانجليز ، ففى يوم 11 يوليه سنة1882 م دكت مراكب الانجليز الاسكندريه و نزلت قواتها على بر مصر و تصدى لها أحمد عرابى فى معركة التل الكبير اللى انهزم فيها عرابى و دخل الانجليز القاهره يوم 15 سبتمبر 1882 و بدأ إحتلال الانجليز لمصر ، و اوقف العمل بالدستور و الغي مجلس النواب ) .


بهذا وحده تفهم علاقات مصر الخارجية و المعركة الدائرة حاليا ، انه صراع حضارات بامتياز ، و كل من يتصدر المشهد حاليا من ثورة مضادة ، ما هم الا كومبارس ، يظهرون في المشهد لبعض الوقت ثم يختفون بعد ذلك الي مذابل التاريخ ، هذا هو المحدد الرئيسى لطبيع علاقات مصر الخارجية علاقات قوى كما يقول علم العلاقات الدولية ، القوة و حسب فى عالم البقاء فيه للأصلح و الأقوى .


--

د ممدوح المنير
خبير تنمية بشرية ( منظمة اليونيسكو الدولية )
كاتب و محلل السياسى
E-mail :almuneir@yahoo.com

الأحد، ٢١ أبريل ٢٠١٣

مذكرات 6 إبريل ( 3 – 3 ) ، فى معية الله ، سر الرقم 608




مذكرات 6 إبريل ( 3 – 3 )

فى معية الله

سر الرقم 608

د ممدوح المنير


almuneir@yahoo.com


جاءتنى تعليقات كثيرة على الحلقتين الأولى و الثانية من المذكرات و أشكر الجميع على هذه التعليقات ، كما أؤكد على أن هذه الشهادة  تحكى الجزء الذى شاهدته من المشهد و عشته و ليس المشهد كاملا من زواياه المختلفة ، فقد تسقط أسماء أو أحداث لم أعلم بها أو أتفاعل معها وقتها حتى لا يظن أحد أنّى قد تجاهلت أحد أو لم أذكر حدث بعينه ، فأرجو أن تفهم المذكرات من خلال هذه الرؤية ، كما أن أكثر من 90 % من المذكرات مكتوب عقب الإفراج عنى مباشرة فى شهر 11 / 2008 م ، و لا تزال بتاريخ نشرها على مدونتى الشخصية ( د ممدوح المنير ) موجودة كما هى من حينها ، كما أؤكد أن هذه المذكرات هى رؤيتى الشخصية للأحداث و ليست رؤية حزب أو جماعة .


أبطال المهمة


كان من أهم اسباب التعذيب هو التعرف على الفريق الإعلامى الذى ساعدنى فى تغطية الأحداث و تعرضت لتعذيب شديد حتّى أبوح بأسمائهم ، لكن الله ثبتنى و هو وحده من يملك هذا ، ليس بالقوة و لا الشجاعة و لكن محض فضل من الله ، و لكن الآن يمكننى البوح بأسمائهم لتوثيق الحدث للتاريخ و هم د محمود رشاد بالمحلة و الذى شجعنا على تغطية الحدث ، عصام شوشة المصوّر المحترف و الذى صوّر أهم الصور فى اليوم ، الأخوان عادل الحداد ( قام بدور كبير عبر مدونته أحرار و لكن فى دعمى )  و محمد الحداد اللذين صوّرا ووثقا الكثير من مشاهد اليوم  ، أ / محمد منجى الذى سمح لنا باستخدام مقر شركته فى المحلة لتكون غرفة عمليات اللجنة الإعلامية و هى مخاطرة شديدة قبل أن يضع نفسه فيها فى حالة اكتشاف امن الدولة ذلك ، أحمد الأشرم الذى كان يقوم بمرافقة المصور لحمايته من أى اعتداء يقع عليه ، هؤلاء هم الفريق الذى عرض نفسه للمخاطرة فى سبيل توثيق الحدث و فضح النظام تجاه أهل المحلة.


من الشخصيات الحبيبة إلى قلبى و لم أنساها و عايشت أجزاء من معاناتى  د سعد عمارة و الأستاذ محمد عبدالجواد و د / محمد وهدان  اللذين أشرفوا على علاجى من التعذيب و الأستاذ وائل الحدينى و الذى أرسل المذكرات لوسائل الإعلام و غيرهم الكثير من الأحباب .

محضر دعارة

 أثناء عرضى على النيابة فى أحد المرات طلب أحد المستشارين الكبار مقابلتى فى حضور الأستاذ زكريا فتحى المحامى رحمه الله و الأستاذ زكريا رمضان المحامى ، رغم أنه من المفروض الا أمثل أمامه و دخلت عليه فى غرفته و قال لى انا هحبسك و انا عارف انّك مظلوم ، و يريت ما تدعيش ( تدعى ) علّيه ، ثم طلب دخول أمّى ، فدخلت و جلست ، فقال لها أرجوكى لا تدعى عليّه علشان أنا مضطر أحبس إبنك و انا عارف إنه مظلوم ، فقلت له و ناوى تحبسنى أد إيه ؟ ، قالى معرفش ، فاستغربت ، و بعدين قالى بالنص : أنا منتظر الفاكس ييجى ذىّ زيّك ، رغم أنه المفروض أن أصغر وكيل نيابة تحت يديه يملك اتخاذ القرار ، لكنه فى انتظار فاكس امن الدولة .


ثم قال لى أمام الحاضرين ، يا عم سيبك من الإخوان و شوف مصلحتك ، همه ناس محترمة ، بس الموج عالى ، و هتبهدل أهلك معاك و مستقبلك هيضيع ، و بعدين حكى لى - و أقسم بالله أنّ هذا ما قاله لى - أن أمن الدولة عندما أخبره أن أحد أقاربه ينتمى للإخوان و حتّى ينفى عنه هذه التهمة ذهب بقريبه هذا إلى قسم الشرطة مع أخت قريبه و وقعا على محضر فى القسم بارتكابهما الزنا معا بمحض إرادتهما ، ثم أخذا المحضر إلى أمن الدولة حتى يرضى عنهما أمن الدولة و لا يتهم قريبه بالإنتماء للإخوان !! ، نظرت إليه و جميع الحاضرين فى ذهول ، ثم أكمل قائلا فى راحة و سعادة و الحمد لله أمن الدولة وافق على أن يحتفظ بمحضر الزنا ليبتز به المستشار و قريبه و اسرته إذا ما فكّرا بالإنتماء للإخوان.


هذا المستشار ياترى أين هو الآن ؟ ، و هل لا يزال محضر الزنا فى يد أحد ضباط جهاز أمن الدولة السابق يبتزه به ؟ ، و كيف يتعامل مع قضايا الثّوار ؟!!


هذا الموقف حكيته ليعرف الناس حجم الفساد و الإفساد الذى يضرب جذوره فى كل مفاصل الدولة ؟ و أن إسقاط مبارك لم يكن سوى طلقة البداية ، كما لا بد أن نؤمن أننا فى معركة النفس الطويل ضد كافة شخوص و أجهزة النظام السايق ، نحتاج فيها إلى مزيد من الجهد و العرق و السهر و أحيانا الشهادة لأنها معركة فى سبيل الله و الوطن و التاريخ .


سر الرقم 608 ، إذا كان الله معك فمن عليك ؟


عشت فى عنبر التأديب هذا عذاب فوق العذاب  من الضجيج الهائل الذى كان يحدثه البلطجية المجاورين لى فى الزنزانة حين يبدأ تأثير المخدرات التى يتعاطونها بالإنتهاء  فيأخذوا فى طرق الأبواب بدون توقف  24 ساعة ، فلم أنم لحظة واحدة لأيام طويلة ، فضلا عن صداع مزمن لا ينتهى , مما أرق مضجعى و نغص علىّ حياتى فكان بلاءاً فوق البلاء ، أوشكت فيه مقاومتى على الإنهيار و استنفذت كافة سبل الإحتجاج كما نوهت من قبل ، فأُغلقت دونىِ الأبواب و بلغت الروحُ الحلقوم ، حتى جاءنى الفرج من حيث  لا أنتظر !.


أحب أن أشير بداهةً أن ما حدث معى لم يكن لأهليّتى لذلك فأنا أعلم الناس بضعفى و تقصيرى و لكن الأمر كما يقول علماء القلوب أن هناك صنفين من البشر يستجيب الله لهما و يحيطهما برعايته بغض النظر عن تقصيرهما فى حقه ، ألا وهما : المضطر يتدخل المولى برحمته التى وسعت كل شىء ليفرج كربه و الآخر هو المظلوم و الذى أقسم الله بنفسه أن ينصره بعدله و لو بعد حين ، لذا أرجوا أن يفهم كلامى من خلال هذا السياق و اللهُ مطلعُ على السرائر .


حين كنت أعانى ما أعانيه إستبدت بىَ الظنون و دخلت علىّ هواجس الخوف و الرعب و اليأس و أحسست أنى مقدم على مرحلة صعبة هذه أولُ بوادرها ، حتى فُتح علىّ الباب و أنا على هذه الحالة و أدخلَ السجّان فى الزنزانة المجاورة لى وافداً جديداً و أمسكت قلبى بيدىّ و أخذت أتسائل من أى نوعٍ هو ؟ مزعج أم هادىء النفس ؟ و ظللت متوجسا غاية التوجس ، أنتظر ما سيحدث ، تمر الساعات على  بطيئة متثاقلة كنت أنتظر فى تلهف أن أرى أو أسمع ردود أفعاله بعد ساعات من الحبس و كان وقتها قد دخل فى نوم عميق منذ أن دخل و بينما أنا على هذه الحالة ، إذا به ينادى يستيقظ و ينادى علىّ : يا أستاذ ، قلت لنفسى قبل أن أرد عليه و بدأت المشاكل ! سوف يطلب منى طلبات لا أستطيع أن ألبيها له و هنا تتكرر مأساتى .


لكنى و جدته يكلمنى فى وداعة و هدوء و يطلب التعرف على  فعرفته بنفسى فى إقتضاب فإذا به يواجهنى بهذا الطلب العجيب الغريب !! ، قائلا لقد جاءنى فى المنام من يقول لى ( آية 608 ) فهل تعرف هذه الآية ؟ ! ، فقلت له فى إندهاش عظيم لا أعرف آية فى كتاب الله تحمل هذا الرقم ، فقال لى فكّر فهذا الخاطر ألحّ علىّ كثيراً و أنا نائم و لا أجد له تفسيراً !! ، فأحسست عندها أنى إستعد لإستقبال رسالة ما ساقها الله إلىّ على لسان هذا الرجل الغريب الذى لم يدخل إلا منذ ساعات معدودة ، فتحت المصحف ووقعَ فى قلبى وعقلى أن هذه الآية ربما تكون هى مجموع الآيات التى تسبقها فى المصحف و فعلاً بدأت فى جمع عدد آيات السور من أول الفاتحة حتى و جدت الآية ( 608 ) هى الآية السابعة عشر فى سورة الأنعام ، قال تعالى ( و إن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو و إن يمسسك بخير فهو على كل شىءٍ قدير ) و ذهلت و سكت و بكيت ! لقد وصلت الرسالة ، واضحة ، جلية ، منبهة ، موجهة ، شافية !!.


إن ( يمسسك) ( الله ) بماذا ( بضر ) ( فلا كاشف له ( إلا ( هو ) ، أخذت أرددها و كلما رددتها أكثر بكيت أكثر ، الله وحده هو النافع و هو الضار، بيده كل شىء و إليه يرجع كل شىء ، بيده الحركة و السكون و الأمر و النهى ، فوجهت و جهى إليه ، أدعوه دعاء المضطر المظلوم ، أبثه شكواى و أقول له يا من جعلت النار برداً و سلاما على إبراهيم إجعل حبستى هذه أمناً و سلاما علىّ و كان بعدها الهدوء التام و السكينة والطمأنينة ، نعم جاءنى بعدها نزلاء جدد و لكن بلا صوت ولا طلبات ، يقضون معظم أوقاتهم نُوّما حتى نسيت وجودهم بجوارى أصلا !! ليس هذا فحسب بل عشت فى سلامٍ نفسىّ عجيب وأخذ الوقت يمضى بسرعة عجيبة لا أشعر معه بلحظة ملل رغم وحدتى !! ، حتى قلت لأحد الضُباّط بعدها أننى أشعر أنى أعيش فى حلم !! ما أن يبدأ اليوم حتى ينتهى !!.


ما أجمل أن تشعر أن الله معك يحفظك و يرعاك ، فإذا كان الله معك فمن عليك ؟ و إذا كان عليك فمن معك ؟! و ذهب الرجل كما جاء بلّغ الرسالة و ذهب و ذهبت معه كل متابعى و عشت بقية أيامى كما أنا وحيدا و لكن فى هدوء حتى أشرفت أيامى فى هذا المكان على الإنتهاء و ما هى إلا ساعات معدودة و أحصل على حكم الإفراج السادس و أنا خائف أن يلحق بسابقيه و لا ينفذ !! و لكن تتأزم الأمور من جديد و ندخل فى محنة جديدة حتى يأتى الفرج من جديد و بشكل لم يخطر على قلب بشر !!.


الزيارة


فى حياة المعتقل تصبح زيارة الأهل و الأحباب – الوالدين و إخوتى معتز و معتصم  و إخوانى و جيرانى - أهم حدث فى حياته ينتظره بفارغ الصبر و على أحّر من الجمر ، كان المرأ يعد أيام حبسته بعدد الزيارات !! .

فى حياة السجون هناك قانون أو عرف غير مكتوب بين كافة المعتقلين السياسيين أو حتى الجنائيين مفاده أن المعتقل يظهر فى أثناء الزيارة فى أحسن هيئة و أجمل صورة أمام زواره ، لأننا جميعا ندرك المشقة الكبيرة التى يعانيها الأهل قبل الزيارة و أثناء الزيارة و بعد الزيارة لذا كان حتميا أن تكون هيئتنا طيبة حتى نبعث فى قلوبهم الطمئنينة .

فى الزيارة يحاول كل منا أن يبدو قويا أمام الاخر و لكن لغة العيون دائما ما كنت تفضح ما يحاول والدىّ إخفاءه من تعب و إرهاق .


فى أغلب الزيارات كانت والدتى عندما أراها لا أتمالك نفسى فقسمات و جهها ، خطواتها المتثاقلة من تعب الطريق ، نظراتها المرهقة من أشعة الشمس الحارقة كل هذا كان يترك فى نفسى أثرا أحاول أن أخفيه لحظة سلامى عليها و لكن هيهات هيهات ، عندما أسلم عليها و أرتمى فى حضنها الدافىء - كأنى طفل يبحث عن الأمان المفقود بين زراعىّ والدته - كنت فى هذه اللحظه أشعر براحة كبيرة بين أحضانها ، أذكر مرة بينما أسلّم على والدى و أحتضنه طال العناق بيننا حاولت أن أنزع نفسى من بين يديه و لكنه أبىِ فاستسلمت له و دار بيننا حوار بلا كلمات أو نظرات كانت كل ضمة يضمنى بها إليه تعبر عن حنان و حب و رحمة كنت فى أمس الحاجة إليها .


أبى و أمى


و لم أنسى لحظة زيارة أهلى لى ( أبى و أمى و أخى معتز ) أول مرة بعد انتقالى لسجن عنبر الزراعة و كنت وقتها فى عنبر التأديب فى الحبس الإنفرادى واستدعونى و أنا بثيابى الممزقة و التى تمتلىء بآثار الدماء و لحيتى و قد طالت واستطالت بلا تهذيب ، فكان منظرا مأساويا بالنسبة لهم و بكى الجميع و أخذت أمّى الحبيبة تدعو علي من حبسنى أمام رئيس المباحث أشرف بيه وقتها و هو يحاول تهدئتها و أعلنت أمى اعتصامها فى حجرته حتى يفرج عنّى وارتبك الموقف ، و لم تنهى أمى اعتصامها إلا بعد تدخلى حرصا عليها ، و بعد أن وعدها الضابط أن تأتى فى الزيارة القادمة و تجد وضعى و قد تحسن !! ، و انصرفوا و أنا أنظر إليهم محاولا التماسك و لكن دموعى غلبتنى بسبب التعب و الإرهاق الذى تعرضوا له فى رحلة العذاب التى يقضونها فى السفر و فى الإنتظار حتى الدخول ثم التفتيش الذاتى للزوار و فى تفتيش الطعام و الملابس المصاحبة لهما ، و قد كبرا بهما السن ، لكنهم لم يتركوا يوما للزيارة إلا كانوا أول من يحضر كل اسبوع ، و كانت الرحل تستغرق منهم أكثر من عشر ساعات ذهابا و إيابا فى تعب و ضغط نفسى لا مثيل له ، فاللهم إجعل صبرهما هذا فى ميزان حسناتهما .


كان من أشد الأمور تعذيبا لى هو تذكرى لمدى المعاناة التى أصيب بها والدىّ فى فترة اعتقالى ، منها أن والدى فى سعيه الحثيث للتعرف على مكانى أثناء إختفائى فى أمن الدولة ، إستطاع عبر معارفه واتصالاته أن يصل إلى رجل يعرف أمين شرطة داخل جهاز أمن الدولة ، و كان ينقل له ما يحدث لى من تعذيب ، فيقول له اليوم إبنك عذبوه جامد ، إبنك كان هيموت من شدة التعذيب ، فتخيلوا كم المعاناة النفسية التى يعانيها أبى و أمى و هم يبيتون كل ليلة على أمثال هذه الأخبار و الحمد لله على كل حال .


النهاية


قبل موعد الإفراج النهائى عنّى بعد ان قضيت سبعة أشهر منهم  ثلاثة فى الحبس الإنفرادى بسجن عنبر الزراعة أعانى شتّى الوان العذاب جائتنى مجموعة من قيادات جهاز أمن الدولة من مقر الجهاز بمدينة نصر الملقب بعاصمة جهنم ، و قالوا لى إعلم أنّك لن ترى الشمس مرة أخرى ، و أن قرار المحكمة بالإفراج عنك هو حبر على ورق ( بلّه واشرب ميّته ) ، واظلمت الدنيا فى عينى و اغلق السجن ابوابه ، أكثر من ستة أبواب متداخلة بعضها فوق بعض و شمّعت الأبواب بالشمع الأحمر ، و انصرف الجميع فى إدارة السجن إلى بيوتهم و ظللت فى الحبس الإنفرادى وحيدا و كنت وقتها صائما قبيل أذان المغرب من يوم الخميس وبدأت فى مرحلة الإنهيار النفسى جراء ما سمعته منهم .


و لكنى تذكرت العلاج الناجع الذى لا يخيب لأى انهيار نفسى أو ضائقة تمر بحياة الإنسان فقمت و توضئت و توجهت إلى القبلة و بكيت و تضرعت إلى الله ان يفكّ كربى و اخذت أهتف بكل قوتى بالدعاء السرمدى الخالد (لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ '' فنجيناه من الغم و كذلك ننجى المؤمنين ), و أذّن لصلاة المغرب و انا على هذا الحال ، واقفا بين يديه متضرعا إليه ، أبثّه شكواى و أقول يارب .


فإذا بى أسمع أصوات الأبواب تفتح الواحد تلو الآخر ، رغم انه فى قانون السجون إذا اغلقت الأبواب لا تفتح إلا فى اليوم الثانى و بمحضر خاص بذلك ، واذا باب زنزانتى يفتح و يدخل رئيس المباحث و يرانى على حالتى هذه فينظر لى باندهاش ، و يقول لى لقد عدت من المنزل خصيصا من اجلك ، قلت له لماذا ؟ قال لا أعلم ، فتعجبت أكثر ، و إذا به يقول هناك من ينتظرك فى الخارج ،فقلت له من؟ ، فرفض الإجابة ، فخرجت فإذا بهم نفس ضباط أمن الدولة ، و قالوا لى : عندنا لك مفاجأة فقلقت أكثر و صمت ، ثم قالوا لى بعد قليل سيأتى والدك لإصطحابك إلى البيت و الف مبروك على الحرية .


و علمت بعدها أن والدى  اتصلوه به و قالوا له نريد رؤيتك فى أمن الدولة ثم أخذ أحد الضباط  الوالد فى سيارته الملاكىّ و توجه به إلى السجن الذى أنا محبوس به ليصطحبنى إلى البيت ، و لم تمضى ثلاث ساعات الا و كنت فى بيتى و فى احضان أمى و والدى و إخوتى ، واستغربت وتعجبت من طريقة الخروج ، لكن من كلامهم معى أثناء خروجى شعرت بأنهم يقولون بلسان الحال ، سنكرمك فى الخروج حتى لا تتحدث عمّا حدث معك من تعذيب و تنكيل فى وسائل الإعلام ، خاصة أننى فعلتها وانا معتقل تحت أيديهم ، لكنى ما أن خرجت حتى كتبت مذكراتى و نشرتها و أجريت أكثر من حوار صحفى فضحت فيه ما حدث معى و لا تزال كل هذه الحوارات موجودة على المدونة.


 وأخذت أقول لنفسى حقاَ متى فتح باب السماء ، تهاوت له كل أبواب الأرض فمن وجد الله و جد كل شئ و من فقده فقد كل شئ فسبحانه بين طرفة عين وأنتباهتها يغير الله من حال إلى حال .


اللهم أرزق الحرية لكل مظلوم و النجاة لكل مكلوم و أرنا عجائب قدرتك فى كل ظالم وطاغية ، و هذه هى شهادتى لله و للوطن و للتاريخ .




--
مع خالص الشكر و التحية

د ممدوح المنير
خبير تنمية بشرية ( منظمة اليونيسكو الدولية )
كاتب و محلل السياسى

الأحد، ١٤ أبريل ٢٠١٣




6 ابريل شهادة لله و للوطن و للتاريخ ( 2-3 )


بقلم / د ممدوح المنير

تحدثنا فى الحلقة الماضية عن أسباب تظاهرات واحتجاجات 6 ابريل و خاصة فى مدينة المحلة الكبرى ، و التى كانت أحداث العنف بها السبب الرئيسى فى تخليد ذكرى 6 ابريل فى تاريخ مصر الحديث.

ثم تحدثنا عن الدور الذى قمنا به فى توثيق الحدث و فضح نظام المخلوع مبارك ، و ما قام به تجاه المواطنين الأبرياء من تنكيل و تعذيب و تلفيق للتهم ، و انتهى بنا المطاف عند واقعة اعتقالى ، و مجريات التحقيق معى و بعض الأحداث التى عايشتها خلال فترة الإعتقال أو الإختطاف بمعنى أصّح خلال هذه الفترة داخل جهاز أمن الدولة بالمحلة الكبرى ، و نكمل فى هذه الحلقة باقى الطريق إلى جهنم عافانا الله و إيّاكم منها .

استمرار التعذيب

كان من أهم اسباب التعذيب هو التعرف على الفريق الإعلامى الذى ساعدنى فى تغطية الأحداث و تعرضت لتعذيب شديد حتّى أبوح بأسمائهم ، لكن الله ثبتنى و هو وحده من يملك هذا ، ليس بالقوة و لا الشجاعة و لكن محض فضل من الله ، و لكن الآن يمكننى البوح بأسمائهم لتوثيق الحدث للتاريخ و هم د محمود رشاد القيادى الإخوانى بالمحلة و الذى شجعنا على تغطية الحدث و قدم لنا التسهبلات اللازمة لأداء المهمة ، عصام شوشة المصوّر المحترف و الذى صوّر أهم الصور فى اليوم ، الأخوان عادل الحداد و محمد الحداد اللذين صوّرا ووثقا الكثير من مشاهد اليوم ، أ / محمد منجى الذى سمح لنا باستخدام مقر شركته فى المحلة لتكون غرفة عمليات اللجنة الإعلامية و هى مخاطرة شديدة قبل أن يضع نفسه فيها فى حالة اكتشاف امن الدولة ذلك ، أحمد الأشرم الذى كان يقوم بمرافقة المصور لحمايته من أى اعتداء يقع عليه ، هؤلاء هم الفريق الذى عرض نفسه للمخاطرة فى سبيل توثيق الحدث و فضح النظام تجاه أهل المحلة.

استمر التعذيب و التضييق فلم يسمحوا لى بدخول الحمام سوى مرة واحدة كحد أقصي ولا تزيد المدة عن دقيقتين وفي حالة الإطالة فإن ذلك يهدد المعتقل بالدخول عليه في الحمام.

قام ضابط واحد بالتحقيق معي وهو الضابط نفسه الذي اعتقلني وكان محور التحقيق عن علاقة الإخوان بإضراب 6 أبريل، وعلاقتي بالإخوان وقد قمت بنفي صلة الإخوان بالإضراب نهائياً وسردت موقف مكتب الإرشاد الخاص برفض المشاركة ومبررات ذلك كما نفيت علاقتي بالإخوان حتى لا يجرر آخرون إلى هذه السلخانة ، وتركز حديثي معهم عن كوني صحفياً يعتبر اعضاء مجلس الشعب بما فيهم المهندس سعد الحسيني مصدراً ثرياً بالنسبة له نظراً لكونه نائباً نشطاً وفي جلسة التحقيق هذه استخدم الضابط الإهانة اللفظية فقط ولم يحدث أي تعذيب جسدي كما أن وجه الضابط أعرفه جيداً لأنه الضابط نفسه الذي اعتقلني.

جلسة التحقيق الثانية كانت في نفس اليوم «الثلاثاء» حوالي الساعة العاشرة ليلاً وكان عدد المحققين عشرة ويبدو أنهم من خارج المحلة وفي الغالب من القاهرة وقد تم توجيه الاسئلة السابقة نفسها مع استخدام الإهانة اللفظية الجنسية والقذف للوالدة واستخدام الصعق الكهربائي في مواقع حساسة من الجسد.

«حلمة الثديين- الرأس- السرة- الجانبين- سلسلة العمود الفقري- الفخذين- الاكتاف».

وضعى على خشبة تغسيل الموتى

مع الضرب بالحد واللكم والصفع علي الوجه مع التهديد بتلفيق القضايا أو التحويل لمحاكمة عسكرية جلسات التحقيق سبع جلسات كانت تتم في عدم وجود ملابس عدا الشورت الساتر للعورة مع استخدام التهديد بالاعتداء الجنسي كما تم تهديدى بتصويرى وأنا بغير ملابس وتهديدي بنشرها علي الإنترنت وتوزيعها في محل سكني ، و لكن الله سلمّ.

في آخر جلسات التحقيق تم وضعي علي خشب غسيل الموتي وتقييدي من يدي ورجلي وكهربة الفخذين واليدين وأنا بغير ملابس بفولت عالٍ وبعد هذا التعذيب أصبت بحالة إغماء لكن هذا لم يرحمني من أيديهم وقاموا برفعي مرة أخري علي خشبة غسيل الموتي ومعاودة تعذيبي حتي سقطت جثة هامدة عندما ظنوا أنني فارقت الحياة أوقفوا التعذيب وأصيب فريق التحقيق بارتباك شديد وقاموا بحل وثاقي وتغطيتي ببطانية قذرة ووضعي في الزنزانة.

عندما أفقت طلبت عرضي علي الطبيب لإصابتي بإعياء شديد لكن لم يستجيبوا لطلبي نهائياً بل رفضوا توفير أي رعاية صحية من أي نوع علي الإطلاق.

قصة البرتقالة

كان أحد وسائل التعذيب هو التجويع ظللت طيلة اسبوعين تقريبا بلا طعام ، اللهم سوى ربع رغيف من عيش عفن و قطعة جبن عفنه ايضا ، و كان سلاحى فى التحمل هو الإستغفار بلا توقف ، حتى وجدت من الشباك احد العساكر يأكل برتقالة ، و كنت وقتها فى حالة اعياء شديد من التعذيب اثناء الإستجواب ، فقلت للعسكرى من خلف القضبان ممكن برتقالة فانا لم اتناول طعاما منذ زمن طويل ، فنهرنى ، فسكت و انا حزين من رده ، و من اننى وضعت نفسى فى هذا الموقف ، فقلت له سوف يرزقنى الله بخير مما معك .

و لم تمضى دقائق حتى وجدت باب الزنزانة يفتح و وجدت احد العساكر يدخل علىّ بأكياس بها أربع أنواع من اجود الفاكهة ، و نحو خمس انواع من عصائر الفاكهة المعلبة و و وجبة غذاء فاخرة ، فاندهشت و سألته من أين لك هذا ؟، فقال لى والدك يأتى كل يوم إليك و معه هذه الأطعمة و لكننا كنّا نقول له لا يوجد عندنا معتقل اسمه ممدوح المنير ، اليوم فقط جاء ايضا و صرفناه ، و بعد ان انصرف وجدنا الضابط يقول لنا ألحقوا بوالده و خذوا ما معه من طعام وادخلوها له ، فقلت له وانا اعرف الإجابه و ما سرّ هذا التغيرّ ؟ قال لى لا اعرف فجأة دون سبب ، فنظرت عبر القضبان إلى السماء و بكيت ، و قلت له انا اعرف السبب ، اذا كان الله معك فمن عليك ؟ ، و اذا كان عليك فمن معك ؟! ، اللهم فرج همّ المهمومين و فك كرب المكروبين

حضور حبيب العادلى لأحد جلسات التعذيب

لاحظت فى آخر جلسات تحقيق معى أن هناك حالة ارتباك شديد ، و عندما سألت أحد الحراس عن سبب ذلك قال لى أن قيادات الداخلية فى الوزارة بما فيهم الوزير حبيب العادلى و المحافظ قد حضروا جلسات التحقيق معك ، فى البداية لم أصدقه ، لكن حالة الفزع التى كان يتحدث بها جعلتنى أصدقه فى النهاية .

وضعوني في الزنزانة لمدة نصف الساعة فقط ثم أركبوني في اليوم نفسه سيارة شرطة «بوكس» وأنا مغمض العينين ومقيد اليدين وتوجهوا بي إلي مقر النيابة العامة لأجد هناك ضابط أمن الدولة نفسه الذي اعتقلني وهو يسرد الاتهامات الموجهة لي علي وكيل النيابة وعندما أدخلت عليه في تمام الساعة الواحدة صباح الجمعة رق لحالي خاصة أنني كنت في حالة إعياء شديدة نتيجة مسلسل التعذيب المستمر كما أن ملابسي التي لم يتم تغييرها منذ 19 يوماً والتي كانت توصيفاً موجزاً لما مررت به فقام بشراء طعام لي وسمح لي بالنوم علي الكنبة التي أمامه لأستريح قليلاً .

الإتصال بالعالم بعد اختفاء ثلاثة اسابيع

سمح لي وكيل النيابة بالاتصال بأهلي لإحضار محامين و كانت مكالمةً شاقةً جدًّا على النفس، ولم أتمالك نفسي؛ نظرًا لاشتياقي لسماع صوتِ أمي الحنون الذي بعث في نفسي بعضًا من طمأنينةٍ كغريقٍ يبحث عن قشة، وأمي بدورها لم تتمالك نفسها وأجهشت بالبكاء، فقد كانوا جميعًا في حالة فزع لا سيما وأن صوتي كان ينمُّ عن حالةٍ صحيةٍ ونفسيةٍ سيئةٍ للغاية، وعقب دقائق من المكالمة حضر عندي 4 محامين بصحبةِ والدي.

كان اللقاءا مؤثرا مع الوالد الذى سقطت دموعه رغما عنه و أخذ يصرخ و يدعى على الظالمين الذين عذبوا إبنه بكل هذه الوحشية ، وقد طلب مني وكيل النيابة تعديد أنواع التعذيب التي تعرضتُ لها وأمرني بخلع ملابسي فيما عدا ما يستر العورة، وكان ذلك في وجود أبي الذي أُصيب بحالة انهيار إثر رؤيته لآثار التعذيب على جسدي.

إخلاء سبيلى ثم اعادة اعتقالى

حصلتُ من وكيل النيابة على أول إخلاء سبيل، وتم تحويلي لقسم ثاني المحلة، وطلبوا مني في القسم التوقيع على إخلاءِ سبيلي والتعهد بالحضور صباح باكر على مسئوليتي الشخصية لمصلحة الطب الشرعي لتوقيع الكشف الطبي عليَّ، ولكن لم يتم تنفيذ قرار إخلاء السبيل وقتها، وتملكني الذهول لذلك الإجراء فقد كنتُ جديدًا على هذه الألاعيب، وتوجهتُ للطبِّ الشرعي صباح يوم السبت في حراسةٍ مشددة، وعُرِضتُ على الطبيب المختص، وقال لي إنه سيقوم بإثبات آثار التعذيب التي رآها بجسدي، وأتيتُ من مصلحة الطب الشرعي إلى النيابة مرةً أخرى ومعي محضر جديد.

لأعرض على النيابة مرة أخرى و تقضى بالتحفظ على إبداءِ الرأي في حريتي لحين انتهاء فترة اعتقالي علمًا بأنه لم يكن قد صدر لي أمر اعتقال لحظة صدور قرار النيابة!!.

ثم تم اصطحابي بعدها إلي مبني أمن الدولة بالمحلة مرة أخري ورغم اعتراضي علي ذلك إلا أنه لا حياة لمن تنادي وظللت بأمن الدولة بالمحلة يومي الأحد والاثنين «27، 28 أبريل» وقد حاولوا تحسين ظروف الحبس بفتح الزنزانة قليلاً للتهوية، والسماح لوالدي بإحضار طعام وملابسي لي وطبعاً دون رؤيته حتي صباح الثلاثاء ثم أخذوا بصمة الأصابع والقدمين وصوروني من الوجه والجانب وتم ترحيلي إلي سجن وادي النطرون .

الحبس بسجن وادى النطرون

هناك تم حبسى فى عنبر الإخوان واستقبلنى المعتقلون أحسن استقبال، وكان من بين المعتقلين إخوان أطباء وأساتذة جامعات قاموا بالكشف الطبي عليَّ وعمل جلسات علاج مكثف لي، وخاصةً أنني كنتُ أصاب بشللٍ كلي مؤقت من آنٍ لآخر نتيجة التعذيب بالكهرباء، واسترددتُ عافيتي إلى حدٍّ ما بعد مرورِ نحو شهر من العلاج، وظللتُ باقي فترة الاعتقال في وادي النطرون، وللأمانة كان وضع السجن والمعاملة مع الإدارة آدمية إلى حدٍّ كبير.

حين حصلتُ على حكم الإفراج واجب التنفيذ، وكان الثاني من نوعه، لم يُنفَّذ وجرى اعتقالي من جديد، وتمت إعادتي إلى وادي النطرون مرةً أخرى، وبعدها بأسبوع نُشِرَ مقال لي في إحد الصحف المستقلة يتحدث عما تعرضتُ له، ونُقلِتُ بعد هذا المقال بفترة إلى سجنٍ عنبر الزراعة الجنائى في القاهرة.

زكريات من أمن الدولة إلى وادى النطرون إلى سجن عنبر الزراعة

السماء !!

من كثرة ما رأيناها أصبحنا لا نشعر بوجودها ، لم نعد ننظر إليها بعد أن تعودنا عليها ، كل الأنظار دائما ما تتجه إلى الأرض ، شغلتنا تفاصيل الحياه فوقها ، أما فى السجن فكان النظر إلى السماء متعة لا تعوض فهى المكان الوحيد الذى لا تحاط به الأسلاك ، فى السجن ترى كل شىء من خلال أسلاك أو قضبان ، أما السماء فهى الجزء الوحيد المحرر ! لا سلطان لأحد عليها ، لم يصل الظلم إليها و لن يصل !! ، كنت أنتظر غروب الشمس بفارغ الصبر حتى أجلس لساعات أنظر إليها و إلى نجومها اللامعة ، فى بعض الأحيان أثبت نظرى على واحدة منها و أغيب معها فى عالم آخر من أحلام اليقظة و كأنها تسحبنى بنورها إلى عالمى الذى افتقده واشتاق إليه.

أما القمر ففى بداية رؤيتى له فى السجن فكنت أضحك رغما عنى ! ، لأنى تعودت فقط أن القمر حكر على المحبين و العشاق و ليس لأرباب السجون باع و لا نصيب في هذا الحب !! ، لكنى و الحق يقال أحببته رغما عنى ! كان هو الوحيد الذى له حق زيارتنا ليلا فى الزنزانة فيصبغها بنوره الهادئ الجميل ، عندها تبدأ ليالى الأنس بالله أو برفاق الزنزانة .

كان يعجبنى فيه بشده صموده و ثباته ، كل يوم تحاول الشمس أن تغيبه عن الأنظار أن تمنع بريقه و نوره الهادى و لكنه فى كل مرة كان يثبت على موقفه ، قد يضعف فى بعض الأحيان و يصغر حجمه و يخف بريقه و لكنه حين تخف قبضة الشمس عليه يعود من جديد متلألأ مكتمل القوة و العزيمة و الضياء .

لكنى حين إنتقلت إلى الحبس الإنفرادى فى سجن عنبر الزراعة و حبست فيه نحو ثلاثة أشهر إفتقدت بشدة زائرا حبيبا إلى قلبى – القمر – فقد كان باب الزنزانة يغلق علىِ فى الثالثة والنصف عصرا أى قبل أن أراه وحزنت أكثر لأن الزنزانة لم يكن بها شباك يطل على السماء .

أجمل شىء إفتقدته فيه هو رفع رأسى لأعلى حين أنظر إليه – القمر – و خلف القضبان أنت تحتاج أن تظل رأسك مرفوعة لأعلى و هو ما يغيظ السجان فهو يريدها دائما منكسة مكسورة و لكنى بحمد ربى ظلت رأسى مرفوعة لأنى حينها كنت أتطلع بأمل إلى رب السماء .

الحمَام !!!

أعتذر للقارئ فى البداية عن الإنتقال الصعب من السماء و القمر و النجوم إلى الحمام !! ، قيل فى الحكم القضبانية – نسبة الى ما وراء القضبان – أن الحمام نصف الحبسة ، فأن يكون هناك حمام فى الزنزانة فهذا إنجاز ضخم يستحق الله الشكر على هذه النعمة الميمونة المباركة .

و عذرا إذا كانت هذه الذكريات من ذوات الرائحة الكريهة و لكنها قصة تستحق أن تروى ! ، كنت فى أيام حبسى الأول أو قل أيام إختفائى (21 يوما) أعيش فى زنزانة بلا حمام كان هناك زجاجتين واحدة لقضاء الحاجة و أخرى للشرب و كلا الزجاجتين كان فارغا و عندما طلبت ملئ إحداهما بالماء سمح لى بذلك فى كرم حاتمى قل نظيره و لكن ظهرت مشكلة أخرى أمامى أيهما مخصص لماء الشرب حتى أعيد ملأها !، حقيقة لم أعرف و إذا سألتنى ألم تستطع أن تميز الرائحة ؟ قلت لك فى الزجاجتين تساوت الرائحة وكلتا الرائحتين كريهتين !! .

عموما فى هذه الأوضاع يبدأ الإنسان فى التنازل عن بعض ما اعتاد عليه فى حياته ، فأنا معروف عنى مثلا أنى مسوس نظافة و تخيل حالتى وقتها ! ، لم يكن الوقت المتاح لى كبيرا فقمت باختيار إحداهما و نظفتها – أو هكذا أقنعت نفسى ! – و ملأتها بماء الشرب و الأخرى نظفتها بحيث تكون جاهزة لوظيفتها الأخرى التى لا داعى لذكرها ، يكفى المرة السابقة التى ذكرتها من قبل ! .

و إذا سألتنى وأين تقضى حاجتك الأخرى؟ قلت لك فى أيام الإختفاء كان مسموحا لى بدخول الحمام مرة واحدة فقط فى اليوم و لفترة قصيرة جدا لا تسمح بهذه المهمة العاجلة و الخطيرة و غالبا ما كنت أصاب بإمساك لأن السجان منذ لحظة دخولى الحمام بل و قبل الدخول يظل يتوعد و يهدد إذا تأخرت فى أداء المهمة و لكن يبدو أن جهازى الإخراجى دخل فى إضراب مفتوح عن العمل !! و دون إذن منى إحتجاجا عن سوء معاملته و بهذا أصبح الإمساك سيد الموقف !! وكان هذا عذابا فوق العذاب .

كانت هذه الرحلة اليومية من الزنزانة إلى الحمام تقضى عدة طقوس منها أن أحمل الزجاجتبن معى لأفراغهما من محتوياتهما و إعادة ملإهما من جديد ثم دخول الحمام و الوضوء ثم العودة ، أميز ما فى هذه الرحلة هى أن تتاح لك الحركة على ساقيك و لو لأمتار قليلة ، لأنه بطيبعة الحال كان الزنزانة لا تفتح أبدا إلا لأداء هذه المهمة أو للتحقيق و ما أدراك ما جلسات التحقيق !! .

و لكن للأمانة فى أيامى الأخيرة فى هذا المكان أصبح عدد مرات الدخول مرتين و سمح بزيادة المدة فى كل مرة ، أما الشىء الإيجابى فى الموضوع و هو أن المرأ كان عازفا عن الطعام لسببين أولهما مشكلة الطعام نفسه و هذا قصة أخرى و ثانيهما أن الأكل يستتبعه عمليتين فيسيولوجيتن الهضم و الإخراج و كلاهما لا يسيطرة للمرأ عليه !! ، وهذا بالطبع كان رجيم إجبارى كنت فى حاجة إليه و لازلت !!.

حين إنتقلت إلى سجن وادى النطرون كان الزنزانة يوجد بها حمام و كان فرحى بذلك عارما و بالتالى أوقف جهازى الإخراجى إضرابه و دخلت فى نوبة من الإسهال و تعمدت ألا أتناول له دواء حتى يستمر أطول فترة ممكنة و كأنى أعوض ما فاتنى طيلة الفترة الماضية ! .

حين إنتقلت إلى السجن الآخر فى منطقة طرة فيما يعرف بالتغريبة ، كان إستقبال إدارة السجن لى أكثر من رائع ، إبتسامات ودودة ، كلمات رقيقة عذبة ، كان ناقصا فقط أن يأخذونى بالأحضان و القبلات حتى أننى ظننت أنى داخل إلى فندق الفورسيزون و ليس إلى سجن ! ، و نتيجة لهذا الإستقبال الرائع إستجمعت شجاعتى و طلبت دخول الحمام ! ، و كانت الإجابة أكثر رقة و عذوبة ( لحظات قصيرة و تدخل إلى مكانك و لتفعل ما تشاء ) و دخلت فعلا و أنا هانئ النفس منشرح الصدر و أخذت أقول لنفسى يبدوا أنهم يريدون أن يكفروا عما فعلوه معى !

و أدخلونى فعلا الحمام و كان نظيفا رغم ضيقه ( 1.5 * 1.80م ) و لكنى فى حبور قلت لا مشكلة بالنسبة لحمام ، ثم كانت المفاجأة المذهلة أنى لم أدخل الحمام لوحدى !! ، و لكن أدخلوا معى حقائبى أيضا ! ثم أغلقوا الباب !! كانت صدمة قاسية للمرأ لم أتوقع أن يكونوا بكل هذا الكرم لقد طلبت فقط أن أدخل الحمام فإذا به يتحول إلى مكان أعيش فيه !! وتكتمل درامية المشهد حين تعلم أن المياه لا تزورنى عبر الصنبور إلا خمس دقائق فى اليوم و الليلة و يصل الفيلم المأساوى الذى عشته إلى ذروته حين تطفح المجارى على و أنا فيه ووضعت فى موقف حرج إما أن أتعامل مع المجارى بيدى – لا تنسى وسوسة النظافة – و إما أن أتركها تصل للمرتبة و الحقائب التى معى و كان الإختيار الأول هو القرار و يالها من لحظات صعبة و مقيتة على النفس أضف إليها ضعف التهوية الشديد مع حر الصيف الذى لا يطاق حتى إنتهت هذه الغمة وانتهت معها وسوسة النظافة إلى الأبد !! ، بطريقة علاج يستحيل أن تخطر ببال أفضل الأطباء !!.

قابلتنى عدة إشكاليات فقهية و أنا فى هذا المكان على سبيل المثال ما حكم الصلاة و قراءة القرآن فى الحمام ؟!

خاصة أننى كنت أصلى و لا تفصلنى عن حافة القاعدة سوى (5 سم ) !! أتمنى أن يجيبنى شيخ الأزهر أو فضيلة المفتى عن هذا التساؤل البرئ ! ، إستمر وجودى فى الحمام ثلاثة أيام بلياليهم حتى إنتقلت إلى مكان أفضل و أوسع بعد أن أضربت عن الطعام واعتصمت أسرتى فى مكان الزيارة بعد معرفتهم بظروف التى أعانى منها .

ملحوظة ختامية هذا المكان الذى كنت به يطلقون عليه زنزانة إنفرادى بها حمام أما أنا فأطلق عليه حمام بزنزانة ! و سبحان من له الدوام فى بداية الحبسة كنت أحمل حمامى فى يدى و فى نهايتها كنت أعيش فيه ! و الحمد لله على كل حال.



فى الحلقة الثالثة بإذن الله نتعرف على سرّ الرقم ( 608 ) و الذى كان السبب فى نجاتى من محنة عظيمة تعرضت لها ، و كيف كانت النهاية الغريبة و الغير متوقعة .

الأحد، ٧ أبريل ٢٠١٣





مذكرات 6 إبريل 2008 م ( 1 – 3 )

شهادة لله ... و للوطن ..... و للتاريخ

بقلم / د ممدوح المنير *

غدا السبت تحتفل حركة 6 إبريل بذكرى تأسيسها فى 2008 م ، و هى الذكرى التى أعتبرتها الحركة يوما للغضب ضد الرئيس مرسى و جماعته ، و بغض النظر عن حجم الإتفاق و الإختلاف مع الحركة ، إلا أنه من الواجب فى هذه الذكرى أن نسجل هذه الشهادة التى لن تنسى أبدا من حياتى .

كان أول ما ناقشه برلمان الثورة  - الذى تم حله لاحقا  - هو حق المصابين و الشهداء فى ثورة 25 يناير ، و عقدت عدة جلسات تابعها الجميع باهتمام ، و غم إداركى و إيمانى العميق بضرورة تكريم هؤلاء الأبطال الذين ضحوا بحياتهم من أجل الوطن إلا أننى شعرت بغصة فى حلقة ، لأن إختصار النضال المصرى من أجل الحرية و الكرامة و العدالة لا يمكن إختصاره بأى حال من الأحوال فى ثورة يناير و ما تلاها ، إنها قصة كفاح شعب عبر عشرات السنين بذل خلالها الكثير من الدماء و آهات الألم و تنهدات الأمل فى سبيل ان نحيا كراما 
إن المصابين و الشهداء و المعتقلين فى 6 إبريل 2008م  وما قبل 6 ابريل و ما بعدها يجب أن يأخذوا حقهم ، كما نطالب الآن لمصابى و شهداء 25 يناير ، بل إنى أعتقد أن المحلة فى  6 ابريل كانت البداية الحقيقية  للثورة المصرية بل كانت أول ثورة فى مصر و العالم العربى منذ عقود طويلة ضد مبارك طاغية هذا العصر ، حيث نالت شرف إسقاط أول صورة ضخمة للرئيس المخلوع مبارك و تمزيقها و وطئها  بالأقدام أمام عدسات الكاميرات ، بل كانت المحلة الكبرى هى أول من نادت بسقوط مبارك حيث كانت الهتاف الذى يرج أرجاء المدينة يسقط يسقط حسنى مبارك .

المذكرات شهادة للتاريخ

و أحب أن أوضح بداية أن الهدف من نشر هذه المذكرات هو رد الجميل إلى أهله حتى لا ينساهم التاريخ ، فهذه الأحداث اعتقل وقتها أكثر من الف معتقل ، ثم أفرج عنهم بعد نحو شهر من الحبس بعد أن تأكدت النيابة ألا وجه لإقامة الدعوى عليهم لأنعدام الأدلة .
ثم قامت مباحث أمن الدولة فى الغربية بإعتقال 100 معتقل آخر بأدلة مفبركة  و عذبتهم أيضا للتوقيع على إعترافات ملفقة منهم ، ووجهت لهم تهمة تخريب المؤسسات العامة و الخاصة و النهب و السرقة و الإعتداء على قوات الأمن و نحو ذلك من التهم المعروفة ، و قدم منهم 49 إلى محكمة إستثنائية تفقد أبسط قواعد العدالة قاد كتيبة الدفاع فيها المحامى القدير أحمد حجازى ، وكان الحكم الجائر  على 23 منهم بالحبس ثلاث سنوات و آخر بخمس سنوات دون إستئناف للحكم .

كما كان هناك أكثر من مئة مصاب ، بإصابات فى العين حيث فقدوا جميعا أحد العيون أو العينين معا ، و حصل ثلاثون فرد منهم على أحكام قضائية بالتعويض ضد وزير الداخلية و مدير الأمن وقتها و لم يصرف سوى لإثنين فقط حتى الآن.

وفاة الطفل أحمد مبروك

كما سقط ثلاثة شهداء هم الطفل احمد على مبروك الذى مات فى احضان والده عندما أصابته رصاصة و هو فى شرفة منزله بين يديى والده  ، و الشهيدان  احمد السيد النونو و رضا النجار .
و قد حصلوا هم أيضا على أحكام قضائية بتعويضات لم يصرف منها شىء حتى الآن .
أكتب هذه المذكرات ايضا ليعلم الجميع أن 6 إبريل ليس حكرا على الحركة التى تحمل هذا الإسم و إنما هو حدث  لأبناء مدينة المحلة ، و وحدهم  لهم الحق فى الفخر به و أنهم أول من نادوا بسقوط الطاغية الأكبر فى تاريخ مصر ، كما كتبتها للتأكيد على أن هناك بعض وسائل الإعلام  تحترف خداع الشعب و تضليله ، فعلى الرغم مما تعرضت له فى اثناء اعتقالى ، و رغم أن كثير من وسائل الإعلام كنت مصدرها الرئيسى فى تغطية الأحداث إلا أننى لم أجد منها أى شكل من أشكال التضامن فى حالة جحود و نفعية لا مثيل لها لا لسبب غير أنى محسوب على احد التيارات الإسلامية المغضوب عليها من وسائل الإعلام  .

بداية إضراب شركة مصر للغزل و النسيج

كانت البداية حين أعلن عمال شركة مصر للغزل و النسيج بالمحلة الكبرى إضرابهم عن العمل فى هذا اليوم احتجاجا عن تردى أوضاعهم و الفساد المستشرى داخل واحدة من أكبر المؤسسات صناعة النسيج فى الشرق الأوسط .
و نتيجة لهذه الدعوة لللإضراب أعلنت مجموعات من الشباب عبر الفيس بوك التضامن مع عمال شركة المحلة و جعل الإضراب فى مصر كلها ضد نظام مبارك ، و تصدر هؤلاء وقتها إسراء عبدالفتاح الناشطة السياسية عبر الجروب الذى أنشأته خصيصا لذلك ، و أحمد ماهر الذى أسس هو و مجموعه من الناشطين حركة 6 إبريل كحركة شبابية معارضة ، و هى الحركة التى يثار الكثير من الجدل عليها الآن .
لقى هذا اليوم زخم إعلامى هائل و ترقب أمنى غير مسبوق و تحولت مدينة المحلة إلى ثكنة عسكرية كبيرة بكل ما تعنيه الكلمة ، حيث تواجد بها أكثر من 400 عربة مصفحة و ناقلات جنود ، و أعلنت جماعة الإخوان المسلمين وقتها أنها لن تشارك فى الإضراب كجماعة و لكنها لن تمنع من يريد المشاركة فى الإضراب من الشباب أن يشارك أو العمال المحسوبين على الجماعة ، لا بحسبانهم من الإخوان و لكن تضامنا مع زملائهم العمال المضربين .
و جاء اليوم  الموعود و شهد عدت فعاليات  و وقفات احتجاجية بسيطة فى  القاهرة و عدة أماكن أخرى ، و لم يشارك فى الإضراب فعليا سوى شريحة صغيرة تكاد لا تذكر ، فى حين كانت معظم المدن المصرية تسير فيها الحياة بشكل طبيعى ، عدى مدينة المحلة الكبرى التى كانت وقتها تتحرك خارج سياق الزمان و المكان لتصنع لنفسها ثورة شعبية هى الأولى من نوعها ضد مبارك و نظامه .

إشتباكات عنيفة

كل ما كان يدور في ذهني وقتها أن الإضرابَ حال نجاحه فى المحلة سيتمثل في خلو الشوارع من المارة وإغلاق المحلات أبوابها، ولكني فوجئت أثناء توجهي إلى منزلي عصر يوم الأحد 6 أبريل أنى قد أصبحت بين طرفي كماشة كما يقولون، فأمامي كانت قوات الأمن وخلفي كان المتظاهرون المنادين بسقوط مبارك متجهين نحو ميدان الشون ( ميدان الثورة ) بوسط المدينة ، و بدأت نذر الإشتباكات بين الطرفين تلوح فى الأفق ، ففضلتُ التوجهَ إلى أحد الأرصفة الجانبية حتى لا أُصاب من أحد الطرفين، وكان يتم وقتها إطلاق قنابل غاز وأُصبت بإحداها ، فى حين يلقى المتظاهرين بالحجارة على قوات الأمن ؛ لذا توجهتُ إلى إحدى العيادات الطبية الموجودة بميدان الشون وغسلتُ وجهي لأزيل آثار قنبلة الغاز، وبدأت وسائل الإعلام في الاتصال بي للحصول على معلوماتٍ حول أحداث المحلة غير المتوقعة، وتسبب غلق المدينة من كافة مداخلها في ضغطٍ إعلامي عليَّ و وتم منع وسائل الإعلام من دخولها إلا من استطاع الإفلات بصعوبة  .

وجدت الموقف يزداد سخونة ، و أحسست بأن هناك مؤامرة تدبر ضد أبناء المحلة ، خاصة بعد أن وجدت مجموعات من البلطجية بدأت تندس وسط المتظاهرين بشكل منظم ، كما أن عدد كبير من مجندى الأمن المركزى بدأ يرتدى هو الآخر اللبس المدنى ، ثم  يقومون بتخريب الممتلكات العامة و السيارات الخاصة ، فشعرت بالقلق و أدركت أن النظام يريد أن يشوه صورة الإحتجاجات و يقلب الطاولة على المحلاوية ، فشعرت بأهمية توثيق ما يحدث حتى لا تضيع الحقيقة وسط هذه الخطة المحكمة من الأمن .

التغطية الإعلامية للحدث

اتصلت بالفريق الإعلامى الخاص بالإخوان فى المحلة لتوثيق ما يحدث ،و بدأ نحو خمسة مصورين محترفين من شباب الإخوان  بتجهيز كاميراتهم ، ثم طلبت منهم  أن ينتشروا فى أماكن الإشتباكات لتوثيق الحدث ، و فضح إجرام النظام بحق أبناء المحلة ، فوجدت منهم استجابة عالية و تضحية كبيرة من أجل أن يلتقطوا الصورة التى تفضح النظام .

أخذت أبحث عن مكان أقوم فيه بإدارة عملية التغطية الإعلامية لليوم ، حتى وجدت مقر شركة احد الإخوان بميدان الشون فاتصلت به  وسألته هل لديك وصلة نت جيدة فأجاب بالإيجاب، كما وجدت أن المكتب يطل على ميدان الشون مسرح العمليات وقتها و الإشتباكات فتوكلت على الله و توجهت إليه .
و كان عملية التغطية وقتها تتم بالشكل التالى ، أخذت أكوّن شبكة إتصالات للإمداد بالمعلومات من كل من أعرفه بالمحلة ، فأتصل مثلا بأحد معارفى فى منطقة محب و اسأله هل توجد إشتباكات أو تظاهرات لديك فيجيب بنعم أو  لا ، ثم أسأله هل هناك اصابات أو تخريب للممتلكات الخاصة و العامة ثم أقوم بنقل هذه المعلومات إلى الصحفيين و وسائل الإعلام التى كانت تمطرنى بتساؤلاتها ، ثم أقوم بالإتصال بالمصورين للتوجه للأماكن المشتعلة و تغطية الحدث ، ثم أقوم بإرسال هذه الصور إلى الصحفيين و الإعلاميين لنشرها ثم أقوم بنشرها على المدونة الخاصة بى .

كنت أظن وقتها أن هناك الكثيرين غيرى يقومون بنقل الأخبار إلى وسائل الإعلام ، لكن ما أكتشفته بعد ذلك أنه بالفعل كان هناك غيرى مثل كريم البحيرى على مدونته أيضا ، لكن كم الأخبار و سرعة نقلها و مصداقيتها تفردت به مع فريقى الإعلامى ، مما جعل معظم وسائل الإعلام الشهيرة تعتمد بشكل مباشر على ما أنقله لها من أخبار وصور ، حتى مقاطع الفيديو التى عرضت فى العاشرة مساءا و القاهرة اليوم و الجزيرة و وكالة رويترز و البى بى سى و الدستور و البديل بل حتى الأهرام الحكومية  و غيرهم من وسائل الإعلام كانت أيضا من تصوير الفريق الإعلامى للإخوان فى المحلة .

لقائى برئيس جهاز أمن الدولة حينها

لذلك وجدت رئيس جهاز أمن الدولة فى الغربية يقول  لى نصا بعد الإفراج عنى ( إنت قلبت الدنيا علينا ، إحنا عمالين نذيع أن الوضع مستقر و هادىء بالمحلة ، و أنت عمّال تنشر إن الأجواء مشتعلة و تؤيد ذلك بالصور  ومقاطع الفيديو ، إنت عاوز تسخن باقى المحافظات كمان تعمل صورة ، دا إنت اللى اتعمل فيك شوية !!! ) ، و كان تصريحه هذا ، بعد اعتراضى على التعذيب الوحشى الذى تعرضت له على يد زبانية جهنم من ضباط أمن الدولة أثناء الإعتقال.
وفي ذلك اليوم-  6 إبريل - لم أستطع الذهاب للمنزل إلا بعد انتهاء الأحداث تمامًا، وكان ذلك في منتصف الليل، وبعد أن قمنا بالتغطية الإعلامية بشكلٍ جيدٍ مع تصوير أغلب الأحداث.

تخيلتُ إن الإضراب انتهى بانتهاء يوم 6 أبريل، ولكني فوجئتُ بإحدى وكالات الأنباء تتصل بي ظهر اليوم الثانى ، وتتحدث عن معلوماتٍ تُفيد بتجدد الاشتباكاتِ مرةً أخرى وتسألني عن صحةِ المعلومات؛ وبذلك وجدتُ نفسي وسط الحدث من جديد، واتجهت إلى ميدان الشون مع الفريق الإعلامى للإخوان بالمحلة مرة أخرى و تمركزوا بنفس مواقعهم وسط الاشتباكات المتصاعدة بشكلٍ عنيف و بشكل أكثر قوة من ذى قبل ، وقمنا باستكمال التغطية  و كان أبرز ما استطعنا تصويره هى صورة تمزيق ماكت كبير لحسنى مبارك و وطئه بالأقدام و هى الصور التى نشرت صبيحة اعتقالى 8 ابريل فى معظم وسائل الإعلام فى صدر صفحاتهم الأول .
كما نشرت صورة مجندين من الأمن المركزى و هم يقومون بتكسير زجاج سيارة مصفحة بكعوب البنادق لإتهام المتظاهرين بالإعتداء على قوات الشرطة و تحطيم سياراتهم !! .

و حينها تأكدت أن هناك أمر يدبر بليل لأهالى المحلة ، و وقتها بدأت حملة إعلامية شعواء تتهم الإخوان بالسعى لقلب نظام الحكم و التحريض ضد السلطات و تشكيل مجموعات تخريبية ضد النظام ، واتهمت الحملة النائب سعد الحسينى صراحة بالمسئولية عن ما يحدث بالمحلة .

و لم تأذن الشمس بالغروب إلا  و وجدت المهندس سعد الحسينى يتصل بى و يخبرنى بأن د عصام العريان سوف يتصل بك الآن ليسألك عما يحدث فى المحلة بعد أن ذاع عبر وسائل الإعلام أن من يبث الأخبار بشكل حصرى من المحلة هو هو ممدوح و فعلا اتصل بى د عصام العريان و طلب منى أن أكتب تقرير صحفى مفصل عن أحداث المحلة ، و قال أنه سوف يسعى بنفسه لنشر عبر الصحف لتتضح الحقيقة التى يسعى النظام لإخفاءها .

بعد اتصال د العريان أدركت أن الموقف تصاعد بشكل لم أتخيله أو أتوقعه ، و كنت حينها أظن أن ما أفعله هو عمل صحفى عادى ، لكنى فوجئت أنه أصبح فاصلا و كاشفا لجريمة كبرى يرتكبها النظام و مؤامرة خطيرة تدبر للإخوان .

بدأت فى كتابة التقرير واتصلت بى معدة برنامج العاشرة مساءا - مدام نشوى الحوفى - و طلبت منى الفيديوهات الخاصة باحداث المحلة ، فوافقت بشرط أن يكون م سعد الحسينى عضو مجلس الشعب عن دائرة المحلة وقتها موجود فى استوديو البرنامج للدفاع عن اهل المحلة و كشف جرائم الأمن ، فطلبت وقتا للتفاوض وانتظرنا نحو 6 ساعات حتى أتصلت بى و اعلنت موافقتها ، و فعلت نفس الموضوع مع برنامج القاهرة اليوم ، و نحو عشر فضائيات منها ما استطعنا جعل المهندس سعد يتواجد بنفسه أو باتصال تليفونى ، و نجحنا بتوفيق الله حينها فى فضح النظام و تنكيله باهل المحلة وانقلب السحر على الساحر ، فبعد ان كان الهدف التنكيل باهل المحلة عموما و التنكيل بجماعة الإخوان المسلمين خصوصا اصبح النظام حينها فى موقف حرج للغاية ، حتى أن رئيس جهاز امن الدولة فى محافظة الغربية استدعانى بعد الإفراج عنى و قال لى بالحرف الواحد ( انت كنت عاوز تعمل ثورة فى مصر كلها ، احنا عمّالين نقول للإعلام الوضع فى المحلة مستقر هادىء و لا توجد احتجاجات وانتى عمّال شغال على المدونة و الفضائيات بتقول ان المحلة مشتعلة ..... الخ ) .
-----
تصاعدت الأحداث بشكل كبير ، و حينها أدركت أننى أصبحت هدف للإعتقال و أدرك من حولى ذلك و طالبونى بألا أبيت فى منزلى ، لكنى رفضت و لم أدرى لماذا ؟! ، لكن أقدار الله إذا أتت لا تسأل لماذا و كان آخر خبر نشرته عبر المدونة هو (وفاة صبى عمره 15 عاما على الفور بسبب اصابته بطلق ناري فى الرأس من أحد الضباط ، وآخر فى الخد والفتى هو : أحمد على محمود حماد ، وهو الآن فى مشرحة القصر العينى بالمحلة ووالده فى حالة انهيار تام ، جراء المواجهات بين المواطنين وقوات الأمن فى أحداث أمس الإثنين بمدينة المحلة الكبرى )  .
و لم تمضى ساعتان على نشر الخبر و عودتى إلى المنزل ، حتى وجدت من يطرق على الباب بقوة و ظننت أنى فى حلم ، فلم أتحرك من مكانى ، ثم زاد الطرق و كان وقتها قد أذن لصلاة الفجر ، فقمت فزعا  و ايقظت والدتى و والدى و قلت لهما إن أمن الدولة بالباب و بدأت الرحلة !!.

الوعد بخمس دقائق اعتقال !!

من عجائب هذه الزيارة الغير مرحب بها أن الضابط المكلف باعتقالى قال لوالدتى التى كانت تتمالك نفسها بصعوبة ( متقلقيش ياحاجة خمس دقائق و راجع ) ، و طبعا لم أعد سوى بعد سبعة أشهر !!! ، ثم فوجئت بجيش من القوات الخاصة المدججة بالبنادق الآلية تتجه صوبى و صوب والدى و والدتى ، فنذرت لهم شذرا، ثم قاموا  بتفتيش منزلي دون إذن تفتيش واستولوا علي عدد من الكتب وهاتف نقال وجهاز الكمبيوتر الخاص بي و توجهوا بى  بعدها  إلى مباحث أمن الدولة بالمحلة؛ حيث تم حبسي بمفردي وبدأ التحقيق معي عصر ذات اليوم بعدما وضع أفراد الشرطة عصابةً على عينيَّ مع تقييد اليدين فلم أستطع رؤية مَن قام بالتحقيق معي، ولكني ميزتُ أن عددهم تجاوز عشرة أفراد.
قضيتُ هناك 21 يومًا، تحت تعذيبٍ مكثف، ورفض المحققون طلبي لطبيب لتدهور حالتى الصحية نتيجة التعذيب لكنهم رفضوا ومنعوا زيارة أهلي الذين كانوا يترددون على الجهاز يوميًّا للسؤال عني، وأفراد المباحث يصرون على نفي اعتقالي بالمقر، وقولهم دائمًا "مش موجود عندنا".
في بداية دخول الزنزانة وضعوا عصابة علي عيني وقيدوني من الخلف وأجبروني علي الوقوف لساعات طويلة في مواجهة الحائط ، بعد أربع أيام من اعتقالى وجدت الحراس يأتون بمعتقل جديد هو محمد مرعى الناشط الحقوقى و الذى كانت تهمته أنه كان يترجم لصحفى أمريكى جاء لتغطية الأحداث بعدها بيومين ، و كان تجاور الزنزانتين بداية صحبة قوية بين مرعى الليبرالى و ممدوح الإخوانى .
فى الحلقة القادمة نتعرف على باقى القصة ، خاصة أن كل ما سبق لم يكن سوى بداية الطريق إلى جهنم ( جهاز أمن الدولة ) .

خبير تنمية بشرية ( منظمة اليونيسكو الدولية )
كاتب و محلل السياسى

blogger templates | Make Money Online