الأحد، ١٤ ديسمبر ٢٠٠٨

تأملات التجربة (8 )

الزيارة

فى حياة المعتقل تصبح زيارة الأهل و الأحباب أهم حدث فى حياته ينتظره بفارغ الصبر و على أحّر من الجمر ، كان المرأ يعد أيام حبسته بعدد الزيارات !! .
فى حياة السجون هناك قانون أو عرف غير مكتوب بين كافة المعتقلين السياسيين أو حتى الجنائيين مفاده أن المعتقل يظهر فى أثناء الزيارة فى أحسن هيئة و أجمل صورة أمام زواره ، لأننا جميعا ندرك المشقة الكبيرة التى يعانيها الأهل قبل الزيارة و أثناء الزيارة و بعد الزيارة لذا كان حتميا أن تكون هيئتنا طيبة حتى نبعث فى قلوبهم الطمئنينة .
روتين مملل و منهك كل أسبوع و على مدار سبعة أشهر فى رحلة اسبوعية تستغرق متوسط ثلاث ساعات ذهاب ومثلها فى العودة و هذا غير وقت الإنتظار أثناء الدخول إلى السجن من ساعة إلى ساعتين فى المتوسط ثم التفتيش الذاتى للزوار و ما يحملونه ثم
وقت الزيارة نفسه بمتوسط ساعتين على حسب لائحة كل سجن .
فى الزيارة يحاول كل منا أن يبدو قويا أمام الاخر و لكن لغة العيون دائما ما كنت تفضح ما يحاول والدىّ إخفاءه من تعب و إرهاق .
فى أغلب الزيارات كانت والدتى عندما أراها لا أتمالك نفسى فقسمات و جهها ، خطواتها المتثاقلة من تعب الطريق ، نظراتها المرهقة من أشعة الشمس الحارقة كل هذا كان يترك فى نفسى أثرا أحاول أن أخفيه لحظة سلامى عليها و لكن هيهات هيهات ، عندما أسلم عليها و أرتمى فى حضنها الدافىء - كأنى طفل يبحث عن الأمان المفقود بين زراعىّ والدته - كنت فى هذه اللحظه أشعر براحة كبيرة بين أحضانها ، أذكر مرة بينما أسلّم على والدى و أحتضنه طال العناق بيننا حاولت أن أنزع نفسى من بين يديه و لكنه أبىِ فاستسلمت له و دار بيننا حوار بلا كلمات أو نظرات كانت كل ضمة يضمنى بها إليه تعبر عن حنان و حب و رحمة كنت فى أمس الحاجة إليها .
قبل الزيارة يكون أغلب الحوار بين المعتقلين عن الأخبار المتوقع و صولها من الأهل أو عن لائحة الطلبات المراد إخبارهم بها لإحضارها فى الزيارة القادمة أو الإطمئنان على العمل و يظل يدور بيننا الحوار و الإستعداد للزيارة الميمونة لساعات من غسل الملابس البيضاء و كيّها و تهذيب الشعر وو ضع العطر وكأن الواحد منّا فى ليلة عرسه غير أنه هنا يرتدى الأبيض لا الأسود !!.
من المشاهد التى كنت أراها و وتحزّ فى نفسى كثيرا ، مشهد الطفل الذى لا يعى من أمور الحياة شيئاَ و هو يتعلق بيد والده لا يريد أن يتركه وترى فى عينيه نظرات زائغة مستفهمة حائرة لماذا لا يعود معى والدى ؟؟ لماذا لم يعد يشترى لى اللعب و الهدايا أو يذاكر معى ؟ هل أغضبته فى شئ ؟ ، كانت مشاهد تمزق نياط القلب و يصل المشهد إلى قمته حين يبكى الطفل لفراق والده و تظل الأم حائرة بين طفلها الباكى وزوجها المتماسك رغم أنفه ، حتى تصبح لحظة الفراق واقعا محتوما و أجلا مكتوبا ، كنت أحمد الله حينها أنى لم أتزوج بعد ، حتى لا أعيش هذا الموقف مرتين مرة مع والدىّ ومرة مع أبنائى ، وتبقى زكريات الزيارة و أحاديثها و شخوصها محوراََ و مادة دسمة للحديث فى الزنزانة .
حين إنتقلت إلى السجن الآخر و كنت السياسى الوحيد به كانت الزيارة تتم فى حجرة أحد الضباط و فى وجوده !! يجلس هو خلف مكتبه بينما نحن جلوس أمامه و كأننا فى زيارة للضابط و ليس لى !! و غالبا ما يكون الضابط طرفا فى الحديث ! فلا خصوصية فى الحوار ، فأصبحت زيارتى ساكتة نتحاور بلغة العيون أو بالهمسات .

0 Comments:

blogger templates | Make Money Online