الأحد، ١٤ أبريل ٢٠١٣




6 ابريل شهادة لله و للوطن و للتاريخ ( 2-3 )


بقلم / د ممدوح المنير

تحدثنا فى الحلقة الماضية عن أسباب تظاهرات واحتجاجات 6 ابريل و خاصة فى مدينة المحلة الكبرى ، و التى كانت أحداث العنف بها السبب الرئيسى فى تخليد ذكرى 6 ابريل فى تاريخ مصر الحديث.

ثم تحدثنا عن الدور الذى قمنا به فى توثيق الحدث و فضح نظام المخلوع مبارك ، و ما قام به تجاه المواطنين الأبرياء من تنكيل و تعذيب و تلفيق للتهم ، و انتهى بنا المطاف عند واقعة اعتقالى ، و مجريات التحقيق معى و بعض الأحداث التى عايشتها خلال فترة الإعتقال أو الإختطاف بمعنى أصّح خلال هذه الفترة داخل جهاز أمن الدولة بالمحلة الكبرى ، و نكمل فى هذه الحلقة باقى الطريق إلى جهنم عافانا الله و إيّاكم منها .

استمرار التعذيب

كان من أهم اسباب التعذيب هو التعرف على الفريق الإعلامى الذى ساعدنى فى تغطية الأحداث و تعرضت لتعذيب شديد حتّى أبوح بأسمائهم ، لكن الله ثبتنى و هو وحده من يملك هذا ، ليس بالقوة و لا الشجاعة و لكن محض فضل من الله ، و لكن الآن يمكننى البوح بأسمائهم لتوثيق الحدث للتاريخ و هم د محمود رشاد القيادى الإخوانى بالمحلة و الذى شجعنا على تغطية الحدث و قدم لنا التسهبلات اللازمة لأداء المهمة ، عصام شوشة المصوّر المحترف و الذى صوّر أهم الصور فى اليوم ، الأخوان عادل الحداد و محمد الحداد اللذين صوّرا ووثقا الكثير من مشاهد اليوم ، أ / محمد منجى الذى سمح لنا باستخدام مقر شركته فى المحلة لتكون غرفة عمليات اللجنة الإعلامية و هى مخاطرة شديدة قبل أن يضع نفسه فيها فى حالة اكتشاف امن الدولة ذلك ، أحمد الأشرم الذى كان يقوم بمرافقة المصور لحمايته من أى اعتداء يقع عليه ، هؤلاء هم الفريق الذى عرض نفسه للمخاطرة فى سبيل توثيق الحدث و فضح النظام تجاه أهل المحلة.

استمر التعذيب و التضييق فلم يسمحوا لى بدخول الحمام سوى مرة واحدة كحد أقصي ولا تزيد المدة عن دقيقتين وفي حالة الإطالة فإن ذلك يهدد المعتقل بالدخول عليه في الحمام.

قام ضابط واحد بالتحقيق معي وهو الضابط نفسه الذي اعتقلني وكان محور التحقيق عن علاقة الإخوان بإضراب 6 أبريل، وعلاقتي بالإخوان وقد قمت بنفي صلة الإخوان بالإضراب نهائياً وسردت موقف مكتب الإرشاد الخاص برفض المشاركة ومبررات ذلك كما نفيت علاقتي بالإخوان حتى لا يجرر آخرون إلى هذه السلخانة ، وتركز حديثي معهم عن كوني صحفياً يعتبر اعضاء مجلس الشعب بما فيهم المهندس سعد الحسيني مصدراً ثرياً بالنسبة له نظراً لكونه نائباً نشطاً وفي جلسة التحقيق هذه استخدم الضابط الإهانة اللفظية فقط ولم يحدث أي تعذيب جسدي كما أن وجه الضابط أعرفه جيداً لأنه الضابط نفسه الذي اعتقلني.

جلسة التحقيق الثانية كانت في نفس اليوم «الثلاثاء» حوالي الساعة العاشرة ليلاً وكان عدد المحققين عشرة ويبدو أنهم من خارج المحلة وفي الغالب من القاهرة وقد تم توجيه الاسئلة السابقة نفسها مع استخدام الإهانة اللفظية الجنسية والقذف للوالدة واستخدام الصعق الكهربائي في مواقع حساسة من الجسد.

«حلمة الثديين- الرأس- السرة- الجانبين- سلسلة العمود الفقري- الفخذين- الاكتاف».

وضعى على خشبة تغسيل الموتى

مع الضرب بالحد واللكم والصفع علي الوجه مع التهديد بتلفيق القضايا أو التحويل لمحاكمة عسكرية جلسات التحقيق سبع جلسات كانت تتم في عدم وجود ملابس عدا الشورت الساتر للعورة مع استخدام التهديد بالاعتداء الجنسي كما تم تهديدى بتصويرى وأنا بغير ملابس وتهديدي بنشرها علي الإنترنت وتوزيعها في محل سكني ، و لكن الله سلمّ.

في آخر جلسات التحقيق تم وضعي علي خشب غسيل الموتي وتقييدي من يدي ورجلي وكهربة الفخذين واليدين وأنا بغير ملابس بفولت عالٍ وبعد هذا التعذيب أصبت بحالة إغماء لكن هذا لم يرحمني من أيديهم وقاموا برفعي مرة أخري علي خشبة غسيل الموتي ومعاودة تعذيبي حتي سقطت جثة هامدة عندما ظنوا أنني فارقت الحياة أوقفوا التعذيب وأصيب فريق التحقيق بارتباك شديد وقاموا بحل وثاقي وتغطيتي ببطانية قذرة ووضعي في الزنزانة.

عندما أفقت طلبت عرضي علي الطبيب لإصابتي بإعياء شديد لكن لم يستجيبوا لطلبي نهائياً بل رفضوا توفير أي رعاية صحية من أي نوع علي الإطلاق.

قصة البرتقالة

كان أحد وسائل التعذيب هو التجويع ظللت طيلة اسبوعين تقريبا بلا طعام ، اللهم سوى ربع رغيف من عيش عفن و قطعة جبن عفنه ايضا ، و كان سلاحى فى التحمل هو الإستغفار بلا توقف ، حتى وجدت من الشباك احد العساكر يأكل برتقالة ، و كنت وقتها فى حالة اعياء شديد من التعذيب اثناء الإستجواب ، فقلت للعسكرى من خلف القضبان ممكن برتقالة فانا لم اتناول طعاما منذ زمن طويل ، فنهرنى ، فسكت و انا حزين من رده ، و من اننى وضعت نفسى فى هذا الموقف ، فقلت له سوف يرزقنى الله بخير مما معك .

و لم تمضى دقائق حتى وجدت باب الزنزانة يفتح و وجدت احد العساكر يدخل علىّ بأكياس بها أربع أنواع من اجود الفاكهة ، و نحو خمس انواع من عصائر الفاكهة المعلبة و و وجبة غذاء فاخرة ، فاندهشت و سألته من أين لك هذا ؟، فقال لى والدك يأتى كل يوم إليك و معه هذه الأطعمة و لكننا كنّا نقول له لا يوجد عندنا معتقل اسمه ممدوح المنير ، اليوم فقط جاء ايضا و صرفناه ، و بعد ان انصرف وجدنا الضابط يقول لنا ألحقوا بوالده و خذوا ما معه من طعام وادخلوها له ، فقلت له وانا اعرف الإجابه و ما سرّ هذا التغيرّ ؟ قال لى لا اعرف فجأة دون سبب ، فنظرت عبر القضبان إلى السماء و بكيت ، و قلت له انا اعرف السبب ، اذا كان الله معك فمن عليك ؟ ، و اذا كان عليك فمن معك ؟! ، اللهم فرج همّ المهمومين و فك كرب المكروبين

حضور حبيب العادلى لأحد جلسات التعذيب

لاحظت فى آخر جلسات تحقيق معى أن هناك حالة ارتباك شديد ، و عندما سألت أحد الحراس عن سبب ذلك قال لى أن قيادات الداخلية فى الوزارة بما فيهم الوزير حبيب العادلى و المحافظ قد حضروا جلسات التحقيق معك ، فى البداية لم أصدقه ، لكن حالة الفزع التى كان يتحدث بها جعلتنى أصدقه فى النهاية .

وضعوني في الزنزانة لمدة نصف الساعة فقط ثم أركبوني في اليوم نفسه سيارة شرطة «بوكس» وأنا مغمض العينين ومقيد اليدين وتوجهوا بي إلي مقر النيابة العامة لأجد هناك ضابط أمن الدولة نفسه الذي اعتقلني وهو يسرد الاتهامات الموجهة لي علي وكيل النيابة وعندما أدخلت عليه في تمام الساعة الواحدة صباح الجمعة رق لحالي خاصة أنني كنت في حالة إعياء شديدة نتيجة مسلسل التعذيب المستمر كما أن ملابسي التي لم يتم تغييرها منذ 19 يوماً والتي كانت توصيفاً موجزاً لما مررت به فقام بشراء طعام لي وسمح لي بالنوم علي الكنبة التي أمامه لأستريح قليلاً .

الإتصال بالعالم بعد اختفاء ثلاثة اسابيع

سمح لي وكيل النيابة بالاتصال بأهلي لإحضار محامين و كانت مكالمةً شاقةً جدًّا على النفس، ولم أتمالك نفسي؛ نظرًا لاشتياقي لسماع صوتِ أمي الحنون الذي بعث في نفسي بعضًا من طمأنينةٍ كغريقٍ يبحث عن قشة، وأمي بدورها لم تتمالك نفسها وأجهشت بالبكاء، فقد كانوا جميعًا في حالة فزع لا سيما وأن صوتي كان ينمُّ عن حالةٍ صحيةٍ ونفسيةٍ سيئةٍ للغاية، وعقب دقائق من المكالمة حضر عندي 4 محامين بصحبةِ والدي.

كان اللقاءا مؤثرا مع الوالد الذى سقطت دموعه رغما عنه و أخذ يصرخ و يدعى على الظالمين الذين عذبوا إبنه بكل هذه الوحشية ، وقد طلب مني وكيل النيابة تعديد أنواع التعذيب التي تعرضتُ لها وأمرني بخلع ملابسي فيما عدا ما يستر العورة، وكان ذلك في وجود أبي الذي أُصيب بحالة انهيار إثر رؤيته لآثار التعذيب على جسدي.

إخلاء سبيلى ثم اعادة اعتقالى

حصلتُ من وكيل النيابة على أول إخلاء سبيل، وتم تحويلي لقسم ثاني المحلة، وطلبوا مني في القسم التوقيع على إخلاءِ سبيلي والتعهد بالحضور صباح باكر على مسئوليتي الشخصية لمصلحة الطب الشرعي لتوقيع الكشف الطبي عليَّ، ولكن لم يتم تنفيذ قرار إخلاء السبيل وقتها، وتملكني الذهول لذلك الإجراء فقد كنتُ جديدًا على هذه الألاعيب، وتوجهتُ للطبِّ الشرعي صباح يوم السبت في حراسةٍ مشددة، وعُرِضتُ على الطبيب المختص، وقال لي إنه سيقوم بإثبات آثار التعذيب التي رآها بجسدي، وأتيتُ من مصلحة الطب الشرعي إلى النيابة مرةً أخرى ومعي محضر جديد.

لأعرض على النيابة مرة أخرى و تقضى بالتحفظ على إبداءِ الرأي في حريتي لحين انتهاء فترة اعتقالي علمًا بأنه لم يكن قد صدر لي أمر اعتقال لحظة صدور قرار النيابة!!.

ثم تم اصطحابي بعدها إلي مبني أمن الدولة بالمحلة مرة أخري ورغم اعتراضي علي ذلك إلا أنه لا حياة لمن تنادي وظللت بأمن الدولة بالمحلة يومي الأحد والاثنين «27، 28 أبريل» وقد حاولوا تحسين ظروف الحبس بفتح الزنزانة قليلاً للتهوية، والسماح لوالدي بإحضار طعام وملابسي لي وطبعاً دون رؤيته حتي صباح الثلاثاء ثم أخذوا بصمة الأصابع والقدمين وصوروني من الوجه والجانب وتم ترحيلي إلي سجن وادي النطرون .

الحبس بسجن وادى النطرون

هناك تم حبسى فى عنبر الإخوان واستقبلنى المعتقلون أحسن استقبال، وكان من بين المعتقلين إخوان أطباء وأساتذة جامعات قاموا بالكشف الطبي عليَّ وعمل جلسات علاج مكثف لي، وخاصةً أنني كنتُ أصاب بشللٍ كلي مؤقت من آنٍ لآخر نتيجة التعذيب بالكهرباء، واسترددتُ عافيتي إلى حدٍّ ما بعد مرورِ نحو شهر من العلاج، وظللتُ باقي فترة الاعتقال في وادي النطرون، وللأمانة كان وضع السجن والمعاملة مع الإدارة آدمية إلى حدٍّ كبير.

حين حصلتُ على حكم الإفراج واجب التنفيذ، وكان الثاني من نوعه، لم يُنفَّذ وجرى اعتقالي من جديد، وتمت إعادتي إلى وادي النطرون مرةً أخرى، وبعدها بأسبوع نُشِرَ مقال لي في إحد الصحف المستقلة يتحدث عما تعرضتُ له، ونُقلِتُ بعد هذا المقال بفترة إلى سجنٍ عنبر الزراعة الجنائى في القاهرة.

زكريات من أمن الدولة إلى وادى النطرون إلى سجن عنبر الزراعة

السماء !!

من كثرة ما رأيناها أصبحنا لا نشعر بوجودها ، لم نعد ننظر إليها بعد أن تعودنا عليها ، كل الأنظار دائما ما تتجه إلى الأرض ، شغلتنا تفاصيل الحياه فوقها ، أما فى السجن فكان النظر إلى السماء متعة لا تعوض فهى المكان الوحيد الذى لا تحاط به الأسلاك ، فى السجن ترى كل شىء من خلال أسلاك أو قضبان ، أما السماء فهى الجزء الوحيد المحرر ! لا سلطان لأحد عليها ، لم يصل الظلم إليها و لن يصل !! ، كنت أنتظر غروب الشمس بفارغ الصبر حتى أجلس لساعات أنظر إليها و إلى نجومها اللامعة ، فى بعض الأحيان أثبت نظرى على واحدة منها و أغيب معها فى عالم آخر من أحلام اليقظة و كأنها تسحبنى بنورها إلى عالمى الذى افتقده واشتاق إليه.

أما القمر ففى بداية رؤيتى له فى السجن فكنت أضحك رغما عنى ! ، لأنى تعودت فقط أن القمر حكر على المحبين و العشاق و ليس لأرباب السجون باع و لا نصيب في هذا الحب !! ، لكنى و الحق يقال أحببته رغما عنى ! كان هو الوحيد الذى له حق زيارتنا ليلا فى الزنزانة فيصبغها بنوره الهادئ الجميل ، عندها تبدأ ليالى الأنس بالله أو برفاق الزنزانة .

كان يعجبنى فيه بشده صموده و ثباته ، كل يوم تحاول الشمس أن تغيبه عن الأنظار أن تمنع بريقه و نوره الهادى و لكنه فى كل مرة كان يثبت على موقفه ، قد يضعف فى بعض الأحيان و يصغر حجمه و يخف بريقه و لكنه حين تخف قبضة الشمس عليه يعود من جديد متلألأ مكتمل القوة و العزيمة و الضياء .

لكنى حين إنتقلت إلى الحبس الإنفرادى فى سجن عنبر الزراعة و حبست فيه نحو ثلاثة أشهر إفتقدت بشدة زائرا حبيبا إلى قلبى – القمر – فقد كان باب الزنزانة يغلق علىِ فى الثالثة والنصف عصرا أى قبل أن أراه وحزنت أكثر لأن الزنزانة لم يكن بها شباك يطل على السماء .

أجمل شىء إفتقدته فيه هو رفع رأسى لأعلى حين أنظر إليه – القمر – و خلف القضبان أنت تحتاج أن تظل رأسك مرفوعة لأعلى و هو ما يغيظ السجان فهو يريدها دائما منكسة مكسورة و لكنى بحمد ربى ظلت رأسى مرفوعة لأنى حينها كنت أتطلع بأمل إلى رب السماء .

الحمَام !!!

أعتذر للقارئ فى البداية عن الإنتقال الصعب من السماء و القمر و النجوم إلى الحمام !! ، قيل فى الحكم القضبانية – نسبة الى ما وراء القضبان – أن الحمام نصف الحبسة ، فأن يكون هناك حمام فى الزنزانة فهذا إنجاز ضخم يستحق الله الشكر على هذه النعمة الميمونة المباركة .

و عذرا إذا كانت هذه الذكريات من ذوات الرائحة الكريهة و لكنها قصة تستحق أن تروى ! ، كنت فى أيام حبسى الأول أو قل أيام إختفائى (21 يوما) أعيش فى زنزانة بلا حمام كان هناك زجاجتين واحدة لقضاء الحاجة و أخرى للشرب و كلا الزجاجتين كان فارغا و عندما طلبت ملئ إحداهما بالماء سمح لى بذلك فى كرم حاتمى قل نظيره و لكن ظهرت مشكلة أخرى أمامى أيهما مخصص لماء الشرب حتى أعيد ملأها !، حقيقة لم أعرف و إذا سألتنى ألم تستطع أن تميز الرائحة ؟ قلت لك فى الزجاجتين تساوت الرائحة وكلتا الرائحتين كريهتين !! .

عموما فى هذه الأوضاع يبدأ الإنسان فى التنازل عن بعض ما اعتاد عليه فى حياته ، فأنا معروف عنى مثلا أنى مسوس نظافة و تخيل حالتى وقتها ! ، لم يكن الوقت المتاح لى كبيرا فقمت باختيار إحداهما و نظفتها – أو هكذا أقنعت نفسى ! – و ملأتها بماء الشرب و الأخرى نظفتها بحيث تكون جاهزة لوظيفتها الأخرى التى لا داعى لذكرها ، يكفى المرة السابقة التى ذكرتها من قبل ! .

و إذا سألتنى وأين تقضى حاجتك الأخرى؟ قلت لك فى أيام الإختفاء كان مسموحا لى بدخول الحمام مرة واحدة فقط فى اليوم و لفترة قصيرة جدا لا تسمح بهذه المهمة العاجلة و الخطيرة و غالبا ما كنت أصاب بإمساك لأن السجان منذ لحظة دخولى الحمام بل و قبل الدخول يظل يتوعد و يهدد إذا تأخرت فى أداء المهمة و لكن يبدو أن جهازى الإخراجى دخل فى إضراب مفتوح عن العمل !! و دون إذن منى إحتجاجا عن سوء معاملته و بهذا أصبح الإمساك سيد الموقف !! وكان هذا عذابا فوق العذاب .

كانت هذه الرحلة اليومية من الزنزانة إلى الحمام تقضى عدة طقوس منها أن أحمل الزجاجتبن معى لأفراغهما من محتوياتهما و إعادة ملإهما من جديد ثم دخول الحمام و الوضوء ثم العودة ، أميز ما فى هذه الرحلة هى أن تتاح لك الحركة على ساقيك و لو لأمتار قليلة ، لأنه بطيبعة الحال كان الزنزانة لا تفتح أبدا إلا لأداء هذه المهمة أو للتحقيق و ما أدراك ما جلسات التحقيق !! .

و لكن للأمانة فى أيامى الأخيرة فى هذا المكان أصبح عدد مرات الدخول مرتين و سمح بزيادة المدة فى كل مرة ، أما الشىء الإيجابى فى الموضوع و هو أن المرأ كان عازفا عن الطعام لسببين أولهما مشكلة الطعام نفسه و هذا قصة أخرى و ثانيهما أن الأكل يستتبعه عمليتين فيسيولوجيتن الهضم و الإخراج و كلاهما لا يسيطرة للمرأ عليه !! ، وهذا بالطبع كان رجيم إجبارى كنت فى حاجة إليه و لازلت !!.

حين إنتقلت إلى سجن وادى النطرون كان الزنزانة يوجد بها حمام و كان فرحى بذلك عارما و بالتالى أوقف جهازى الإخراجى إضرابه و دخلت فى نوبة من الإسهال و تعمدت ألا أتناول له دواء حتى يستمر أطول فترة ممكنة و كأنى أعوض ما فاتنى طيلة الفترة الماضية ! .

حين إنتقلت إلى السجن الآخر فى منطقة طرة فيما يعرف بالتغريبة ، كان إستقبال إدارة السجن لى أكثر من رائع ، إبتسامات ودودة ، كلمات رقيقة عذبة ، كان ناقصا فقط أن يأخذونى بالأحضان و القبلات حتى أننى ظننت أنى داخل إلى فندق الفورسيزون و ليس إلى سجن ! ، و نتيجة لهذا الإستقبال الرائع إستجمعت شجاعتى و طلبت دخول الحمام ! ، و كانت الإجابة أكثر رقة و عذوبة ( لحظات قصيرة و تدخل إلى مكانك و لتفعل ما تشاء ) و دخلت فعلا و أنا هانئ النفس منشرح الصدر و أخذت أقول لنفسى يبدوا أنهم يريدون أن يكفروا عما فعلوه معى !

و أدخلونى فعلا الحمام و كان نظيفا رغم ضيقه ( 1.5 * 1.80م ) و لكنى فى حبور قلت لا مشكلة بالنسبة لحمام ، ثم كانت المفاجأة المذهلة أنى لم أدخل الحمام لوحدى !! ، و لكن أدخلوا معى حقائبى أيضا ! ثم أغلقوا الباب !! كانت صدمة قاسية للمرأ لم أتوقع أن يكونوا بكل هذا الكرم لقد طلبت فقط أن أدخل الحمام فإذا به يتحول إلى مكان أعيش فيه !! وتكتمل درامية المشهد حين تعلم أن المياه لا تزورنى عبر الصنبور إلا خمس دقائق فى اليوم و الليلة و يصل الفيلم المأساوى الذى عشته إلى ذروته حين تطفح المجارى على و أنا فيه ووضعت فى موقف حرج إما أن أتعامل مع المجارى بيدى – لا تنسى وسوسة النظافة – و إما أن أتركها تصل للمرتبة و الحقائب التى معى و كان الإختيار الأول هو القرار و يالها من لحظات صعبة و مقيتة على النفس أضف إليها ضعف التهوية الشديد مع حر الصيف الذى لا يطاق حتى إنتهت هذه الغمة وانتهت معها وسوسة النظافة إلى الأبد !! ، بطريقة علاج يستحيل أن تخطر ببال أفضل الأطباء !!.

قابلتنى عدة إشكاليات فقهية و أنا فى هذا المكان على سبيل المثال ما حكم الصلاة و قراءة القرآن فى الحمام ؟!

خاصة أننى كنت أصلى و لا تفصلنى عن حافة القاعدة سوى (5 سم ) !! أتمنى أن يجيبنى شيخ الأزهر أو فضيلة المفتى عن هذا التساؤل البرئ ! ، إستمر وجودى فى الحمام ثلاثة أيام بلياليهم حتى إنتقلت إلى مكان أفضل و أوسع بعد أن أضربت عن الطعام واعتصمت أسرتى فى مكان الزيارة بعد معرفتهم بظروف التى أعانى منها .

ملحوظة ختامية هذا المكان الذى كنت به يطلقون عليه زنزانة إنفرادى بها حمام أما أنا فأطلق عليه حمام بزنزانة ! و سبحان من له الدوام فى بداية الحبسة كنت أحمل حمامى فى يدى و فى نهايتها كنت أعيش فيه ! و الحمد لله على كل حال.



فى الحلقة الثالثة بإذن الله نتعرف على سرّ الرقم ( 608 ) و الذى كان السبب فى نجاتى من محنة عظيمة تعرضت لها ، و كيف كانت النهاية الغريبة و الغير متوقعة .

1 Comment:

مهندس مصري بيحب مصر said...

سبحان الله
تكلم يا دكتور و دع الناس تتذكر الحقائق التي يحاول الإعلام طمسها

blogger templates | Make Money Online