ما الذى خسرته مصر و العالم بتطبيق الطوارىء ؟! ( 2 – 2 )
نشر فى : نافذة مصر ، اخوان اون لاين ، بر مصر
بقلم د / ممدوح المنير *
تكلمنا فى المقال السابق عن كون مصر تكاد تعبر الدولة الوحيدة فى العالم التى تطبق قانون الطوارىء منذ ثلاثين عاما على شعبها ، و تحدثنا عن فحوى بعض مواد قانون الطوارىء و التى تعطى الحق لرجال النظام و سدنته فى الإلغاء العملى لكافة مواد الدستور و القانون المصرى ، حيث يجعل قانون الطوارىء الشعب مستباحا من قبل النظام فحريته مسلوبة بكاملها دون ضابط و ممتلكاته منهوبة بلا رقيب و حياة المواطن و حركته و سكونه تحت وصايته .
فى هذا المقال نلقى الضوء على الآثار التى ترتبت على حكم المصريين طيلة ثلاثين عاما بهذا القانون البائس :
أولا ) أكبر كارثة سببها هذا القانون هو تأسيسه لدولة عمادها الظلم و بناءها الطغيان و باطنها من قبلها العذاب و الفساد و الإستبداد ، حين نطلق هذه العبارات فهى ليست كلمات مجازية أو إنشائية ، بل هى حقيقة واقعة مشاهدة لكل إنسان صحيح البصر و البصيرة .
فمن المعروف أن السلطات التنفيذية فى معظم دول العالم سواء المتقدمة منها أو المتخلفة قد ( تتجاوز ) فى الصلاحيات الممنوحة لها فى القانون العادى- فى بعض الأحيان أو فى الكثير منها - لكن المشكل عندنا أن الأجهزة التنفيذية للدولة إعتادت العمل بقانون الطوارىء الذى يمثل واحد من أبشع القوانين التى عرفتها البشرية !! ، فما بالك عندما تتجاوز أجهزة الدولة قانون الطوارىء ذاته و تتعداه فى تعاملها مع المواطنين ؟! ، و إذا تعجبت من هذا الطرح فرجع إلى تقارير المنظمات الحقوقية و الدولية المستقلة لتدرك أن النظام لم يكتفى بقانون الطوارىء بل تعداه فى قهره للشعب و بشكل لم يخطر على قلب بشر !! .
ثانيا ) حين أسس النظام بنيانه على قانون الطوارىء إنتشرالظلم و الطغيان فكان اول ما أصاب المواطن المصرى هو أن أصبحت صفات مثل ( الخوف و الفزع و السلبية ) هى المتحكمة فى نظرته للأمور و تقديره للأشياء ، فالخوف و الفزع هما وسيلة أى نظام مستبد للبقاء ، عندما غابت حقوق المواطن تحت عتبات الطوارىء ، إنسحب الناس من الحياة و أصبح المواطن يدير حياته بعيدا عن الدولة ، فانتقلت الأمة المصرية من دولة الطوارىء إلى دولة الغابة ، دولة البقاء فيها للأقوى و الأفسد و لو إلى حين !! ، و أخذت دولة البقاء للأصلح تتلاشى من حياة المواطنين ، حتى أخذت سمات قانون الطوارىء يتشربها الطفل المولود ،و يتربى عليها الفتيان و يشيب عليها الكهول !! ، فنسى الناس – إلا من رحم ربى – أنهم ناس !! ، و عاشوا بمنطق القطيع يقادون و لا يقودون .
و حين تراجع هذا على الأرض تجد أن كلماتى السابقة تعبر على إستحياء عن مرارة الواقع و التى لو تطرقنا إليها لما نفعنا مقال و لا كتاب و لا حتى موسوعة !! لنصف كيف تغيرت حياة الناس و أخلاقهم .
ثالثا ) إقتصاديا : يقول تعالى على لسان سيدنا إبراهيم }رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ{ [البقرة: 126] ، المعنى الواضح لهذه الآية الكريمة هو إرتباط ( الشعور بالأمن ) بالرخاء الإقتصادى فلكى تحصل على الثمرات لابد من أن تشعر بالأمن و الطمأنينة ، حين تطبق هذه الآية على الوضع الإقتصادى المتدهور الذى تعانى منه مصر ، سرعان ما تدرك ما الذى فعلته بنا الطوارىء ، إفتقر الناس و هربت رؤوس الأموال ، و بيعت معظم أصول مصر ، و تدهورت كافة مرافق الدولة بشكل غير مسبوق ، و سرّح ملايين العاملين و أنتشرت البطالة .
لأن الأمن مفقود و العدل موؤود و الباطل مسنود فى ظل الطوارىء ، تراجعت مصر فى كل مجالات التنمية و تقارير المنظمات الدولية خير شاهد على ذلك .
رابعا ) مجتمعيا : حين شعر الناس أنه لا حيلة لهم فى ظل الطوارىء تأقلموا مع هذا الوضع بعدة طرق منها الإنسحاب من الحياة و السلبية المطلقة كما قلنا سابقا ، فوجدنا الكثيرين ينتحرون أو يقتلوا أبنائهم أو آبائهم إحتجاجا على ما تفعله الدولة بهم !! لم يكن هذا العنف موجه للنظام بل كان موجه للذات ، فكان قتلهم لأنفسهم أو لأحبائهم أهون عليهم من يتصادموا مع النظام !! ، أمثال هؤلاء تجد معظمهم فى المناطق العشوائية و الهامشية تنتشر بينهم البلطجة و الإنحلال الأخلاقى و الأمية و الجهل و المرض لهم عالمهم الخاص المغلق عليهم بعد أن أصبحوا فى ظل الطوارىء طارئون على الحياة !! .
البعض الآخر إستخدم العنف ضد الدولة فدخل معها فى صراع مرير حين تقرأ بعض تفاصيله و تطلع على بعض أسراره سرعان ما تشعر بحسرة ما بعدها حسرة عن الخسائر فى القلب و العقل و الضمير و الجسد فى هذه الدولة الظالمة أهلها و قصص ما وراء الأسوار تكفى و زيادة .
آخرون وجدوا الحل لمعضلتهم مع نظام الطوارىء بأن يرتموا فى أحضانه و يتمرغوا فى ترابه و يتخلقوا بأخلاقه !! ، فظهرت طبقة من البشر مات كل شىء فيها اللهم إلا شهواتها التى لا تروى من ظمأ و لا تشبع من جوع ، فانتشرت المحسوبية و الواسطة و الرشوة و قيم النفاق و التملق و الغدر و الخيانة و الغش و الكذب و التزوير و الفساد تقربا و زلفى للأسياد ، لأن رضا الباب العالى أصبح هو قانونهم الوحيد فى ظل الطوارىء بعد أن غيّب قانونهم الطبيعى الذى يضمن حقوقهم و هذا ليس تبريرا لهم بقدر ما هو تفسيرا للحال الذى وصلوا إليه .
ثم تبقى القلة القليلة الصابرة المرابطة التى لم تتلوث بعد و هذه هى معقد الأمل بعد الله و التى تقوى شكوتها كل يوم و تزداد عزيمتها كل حين ، و يقرب صبحها كل فجر .
خامسا ) حين سادت حالة الطوارىء و أخلاق الطوارىء و رجال الطوارىء ، لم تتأثر مصر وحدها و شعبها ، بل كانت هذه الحالة وبالا على الأمة بكاملها ، فحين تجذرت الطوارىء فى مصر أنبتت العلقم فى فلسطين و العراق و السودان و غيرهم ، فلم يعد للعالم العربى و الإسلامى ( كبير ) يعمل له حساب لدى الغرب ، لأن النظام إنكفأ على ذاته واستقال من كافة قضايا أمته اللهم إلا من باب رفع الحرج أو ذرا للرماد فى العيون لأنه يعلم أن بيته من خيوط العنكبوت فآثر السلامة و الإنسحاب على الممانعة و الكبرياء ، و لأنه لا يوجد فى ظل الطوارىء أحد يحاسبه أو يراجعه فلم يدخل فى صراع من أجل الأمة أو يتبنى قضية من قضاياها ، بل كان للأسف معول للهدم أكثر منه معول للبناء و ما يحدث فى غزة و دوره المشبوه هناك جزء من كل ، من مشهد تعانى منه الأمة فى ظل الطوارىء .
إن هذه القانون لهو عار على التاريخ ، عار على الماضى و الحاضر و المستقبل ، عار على كل إنسان يمتلك الحد الأدنى من الكرامة و الإنسانية ، أن الذى يقبل أن يعيش فى ظل الطوارىء عبدا و قد خلقه الله سيدا ، أسيرا و قد خلقه الله حرا ، ذليلا و قد خلقه الله عزيزا لا يستحق الحياة و لا تستحقه ، فهل نستيقظ و نتحرك قبل فوات الأوان ، اللهم قد بلغت ، اللهم فاشهد .
· كاتب و باحث
0 Comments:
Post a Comment